فصل: شهر ذي الحجة سنة 1227:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.شهر شعبان سنة 1227:

واستهل شهر شعبان بيوم الأحد في رابعه يوم الأربعاء الموافق لسابع مسرى القبطي أوفي النيل المبارك أدرعه ونزل الباشا في صبح يوم الخميس في جم غفير وعدة وافرة من العساكر وكسر السد بحضرته وحضرة القاضي وجرى الماء في الخليج ومنع المراكب من دخولها الخليج.
وفي منتصفه، سافر سليمان آغا ومحو بك بعد أن قضوا أشغالهم وباعوا تعلقاتهم وقبضوا علائفهم.
وفي يوم الخميس تاسع عشره، سافر صالح آغا قوج وصحبته نحو المائتين ممن اختارهم من عساكره الأرنؤدية وتفرق عنه الباقون وانضموا إلى حسن باشا وأخيه عابدين بك وغيرهما.
وفي يوم الجمعة، برزت خيام الباشا خارج باب النصر وعزم على الخروج والسفر بنفسه إلى الحجاز وقد اطمأن خاطره عندما سافر الجماعة المذكورون لأنه لما قطع خرجهم ورواتبهم وأمرهم بالسفر جمعوا عساكرهم إليهم وخيولهم وأخذوا الدور والبيوت ببولاق وسكنوها وصارت لهم وسفاشيته وغيرهم بالملازمة والمبيت بالقلعة وغير ذلك.
وفي يوم السبت حادي عشرينه، اجتمعت العساكر وانجر الموكب من باكر النهار فكان أولهم طوائف الدلاة ثم العساكر وأكابرهم وحسن باشا وأخوه عابدين بك وهو ماش على أقدامه في طوائفه أمام الباشا ثم الباشا وكتخدا بك وأغواتهم الصقلية وطوائفهم وخلفهم الطبلخانات وعند ركوبه من القلعة ضربوا عدة مدافع فكان مدة مرورهم نحو خمس ساعات وجروا أما الموكب ثمانية عشر مدفعاً وثلاث قنابر.

.شهر رمضان سنة 1227:

واستهل شهر رمضان بيوم الاثنين في رابع عشرينه وردت هجانة مبشرون باستيلاء الأتراك على عقبة الصفراء والجديدة من غير حرب بل بالمخادعة والمصالحة مع العرب وتدبير شريف مكة ولم يجدوا بها أحداً من الوهابيين فعندما وصلت هذه البشارة ضربوا مدافع كثيرة تلك الليلة من القلعة وظهر فيهم الفرح والسرور.
وفي تلك الليلة، حضر أحمد آغا لاظ حاكم قنا ونواحيها وكان من خبره أنه لما وصلت إليه الجماعة الذين سافروا في الشهر الماضي وهم صالح آغا وسليمان آغا ومحو بك ومن معهم واجتمعوا على المذكور وبثوا شكواهم وأسروا نجواهم وأضمروا في نفوسهم أنهم إذا وصلوا إلى مصر ووجدوا الباشا منحرفاً منهم أو أمرهم بالخروج والعود إلى الحجاز امتنعوا عليه وخالفوه وإن قطع خرجهم وأعطاهم علائفهم بارزوه ونابذوه وحاربوه واتفق أحمد آغا المذكور معهم على ذلك وأنه متى حصل هذا المذكور أرسلوا إليه فيأتيهم على الفور بعسكره وجنده وينضم إليه الكثير من المقيمين بمصر من طوائف الأرنؤد كعابدين بك وحسن باشا وغيرهم بعساكرهم لاتحاد الجنسية فلما حصل وصول المذكورين وقطع الباشا راتبهم وخرجهم وأعطاهم علائفهم المنكسرة وأمرهم بالسفر أرسلوا لأحمد آغا لاظ المذكور بالحضور بحكم اتفاقهم معه فتقاعس وأحب أن يبدي لنفسه عذراً في شقاقه مع الباشا فأرسل إليه مكتوباً يقول فيه إن كنت قطعت خرج إخواني وعزمت على سفرهم من مصر وإخراجهم منها فاقطع أيضاً خرجي ودعني أسافر معهم فأخفى الباشا تلك المكاتبة وأخر عود الرسول ويقال له الخجا لعلمه بما ضمروه فيما بينهم حتى أعطى للمذكورين علائفهم على الكامل ودفع لصالح آغا كل عاماً طلبه واده حتى أنه كان أنشأ مسجداً بساحل بولاق بجوار داره وبنى له منارة ظريفة واشترى له عقاراً وأمكنة وقفها على مصالح ذلك المسجد وشعائره فدفع له الباشا جميع ما صرفه عليه وثمن العقار وغيره ولم يترك لهم مطالبة يحتجون بها في التأخير وأعطى الكثير من رواتبهم لحسن باشا وعابدين بك أخيه فمالوا عنهم وفارقهم الكثير من عساكرهم وانضموا إلى أجناسهم المقيمين عند حسن باشا وأخيه فرتبوا لهم العلائف معهم وأكثرهم مستوطنون ومتزوجون بل ومتناسلون ويصعب عليهم مفارقة الوطن وما صاروا فيه من التنعم ولا يهون بمطلق الحال استبدال النعيم بالجحيم ويعملون عاقبة ما هم صائرون إليه لأنه فيما بلغنا أنه من سافر منهم إلى بلاده قبض عليه حاكمها وأخذ منه ما معه من المال الذي جمعه من مصر وما معه من المتاع وأودعه السجن ويفرض عليه قدراً فلا يطلقه حتى يقوم بدفعه على ظن أن يكون أودع شيئاً عند غيره فيشتري نفسه به أو يشتريه أقاربه أو يرسل إلى مصر مراسلة لعشيرته وأقاربه فتأخذهم عليه الغيرة فيرسلون له ما فرض عليه ويفتدونه وإلا فيموت بالسجن أو يطلق مجرد أو يرجع إلى حالته التي كان عليها في السابق من الخدم الممتهنة والاحتطاب من الجبل والتكسب بالصنائع الدنيئة ببيع الأسقاط والكروش والمؤاجرة في حمل الأمتعة ونحو ذلك فيختارون الإقامة ويتركون مخاديمهم خصوصاً والخسة من طباعهم هذا والباشا يستحث صالح آغا ورفقاءه في الرحيل حيث لم يبق له عذر في التأخير فعندما نزلوا في المراكب وانحدروا في النيل أحضر الباشا الخجا المذكور وهو عبارة عن الأفندي المخصوص بكتابة سره وإيراده ومصرفه وأعطاه جواب الرسالة مضمونها تطمينه وتأمينه ويذكر له أنه صعب عليه وتأثر من طلبه المقاطعة وطلبه المفارقة وعدد له أسباب انحرافه عن صالح آغا ورفقاءه وما استوجبوا به ما حصل لهم من الإخراج والإبعاد وأما هو فلم يحصل منه ما يوجب ذلك وأنه باق على ما يعهده من المودة والمحبة فإن كان ولا بد من قصده وسفره فهو لا يمنعه من ذلك فيأتي بجميع أتباعه ويتوجه بالسلامة أينما شاء وإلا بأن صرف عن نفسه هذا الهاجس فليحضر في القنجة في قلة ويترك وطاقه وأتباعه ليواجهه ويتحدث معه في مشورته وانتظام أموره التي لا يتحملها هذا الكتاب ويعود إلى محل ولايته وحكمه مكرماً فراج عليه ذلك التمويه وركن إلى زخرف القول وظن أن الباشا لا يصله بمكروه ولا يواجهه بقبيح من القول فضلاً عن الفعل لأنه كان عظيماً فيهم ومن الرؤساء المعدودين صاحب همة وشهامة وإقدام جسوراً في الحروب والخطوب وهو الذي مهد البلاد القبلية وأخلاها من الأجناد المصريين فلما خلت الديار منهم واستقر هو بقنا وقوص وهو مطلق آغا قوج بالأسيوطية ثم إن الباشا وجه صالح آغا إلى الحجاز وقلد ابنه إبراهيم باشا ولاية الصعيد فكان يناقض عليه أحمد آغا المذكور في أفعاله ويمانعه التعدي على أطيان الناس وأرزاق الأوقاف والمساجد ويحل عقد إبراماته فيرسل إلى أبيه بالأخبار فيحقد ذلك في نفسه ويظهر خلافه ويتغافل وأحمد آغا المذكور على جليته وخوص نيته فلما وصلته الرسالة اعتقد صدقه وبادر بالحضور في قلة من أتباعه حسب إشارته وطلع إلى القلعة ليلة السبت وهي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فعبر عند الباشا وسلم عليه فحادثه وعاتبه ونقم عليه أشياء وهو يجاوبه ويرادده حتى ظهر عليه الغيظ فقام كتخدا بك وإبراهيم آغا وخرجا من عند الباشا ودخلا إلى مجلس إبراهيم آغا وجلسوا يتحدثون وصار الكتخدا وإبراهيم آغا يلطفان معه القول وأشاروا عليه بأن يستمر معهما إلى وقت السحور وسكون حدة الباشا فيدخلون إليه ويتسحرون معه فأجابهم إلى رأيهم وأمر من كان بصحبته من العسكر وهم نحو الخمسين بالنزول إلى محلهم فامتنع كبيرهم وقال لا نذهب ونتركك وحيداً فقال الكتخدا وما الذي يصيبه وهو همشري ومن بلدي وإن أصيب بشيء كنت أنا قبله فعند ذلك نزلوا وفارقوه وبقي عنده من لا يستغني عنه في الخدمة فعند ذلك أتاه من يستدعيه إلى الباشا فلما كان خارج المجلس قبضوا عليه وأخذوا سيفه وسلاحه ونزلوا له إلى تحت سلم الركوب وأشعل الضوى المشعل وأداروا كتافه ورموا رقبته ورفعوه في الحال وغسلوه وكنفوه ودفنوه وذلك في سادس ساعة من الليل وأصبح الخبر شائعاً في المدينة وأحضر الباشا الخجا وطولب بالتعريف عن أمواله وودائعه وعين في الحال باشجاويش ليذهب إلى قنا ويختم على داره ما له من الغلال والأموال وطلبت الودائع ممن هي عنده التي استدلوا عليها بالأوراق فظهر له ودائع في عدة أماكن وصناديق مال وغير ذلك ولم يتعرض لمنزله ولا لحريمه. ويتغافل وأحمد آغا المذكور على جليته وخوص نيته فلما وصلته الرسالة اعتقد صدقه وبادر بالحضور في قلة من أتباعه حسب إشارته وطلع إلى القلعة ليلة السبت وهي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان فعبر عند الباشا وسلم عليه فحادثه وعاتبه ونقم عليه أشياء وهو يجاوبه ويرادده حتى ظهر عليه الغيظ فقام كتخدا بك وإبراهيم آغا وخرجا من عند الباشا ودخلا إلى مجلس إبراهيم آغا وجلسوا يتحدثون وصار الكتخدا وإبراهيم آغا يلطفان معه القول وأشاروا عليه بأن يستمر معهما إلى وقت السحور وسكون حدة الباشا فيدخلون إليه ويتسحرون معه فأجابهم إلى رأيهم وأمر من كان بصحبته من العسكر وهم نحو الخمسين بالنزول إلى محلهم فامتنع كبيرهم وقال لا نذهب ونتركك وحيداً فقال الكتخدا وما الذي يصيبه وهو همشري ومن بلدي وإن أصيب بشيء كنت أنا قبله فعند ذلك نزلوا وفارقوه وبقي عنده من لا يستغني عنه في الخدمة فعند ذلك أتاه من يستدعيه إلى الباشا فلما كان خارج المجلس قبضوا عليه وأخذوا سيفه وسلاحه ونزلوا له إلى تحت سلم الركوب وأشعل الضوى المشعل وأداروا كتافه ورموا رقبته ورفعوه في الحال وغسلوه وكنفوه ودفنوه وذلك في سادس ساعة من الليل وأصبح الخبر شائعاً في المدينة وأحضر الباشا الخجا وطولب بالتعريف عن أمواله وودائعه وعين في الحال باشجاويش ليذهب إلى قنا ويختم على داره ما له من الغلال والأموال وطلبت الودائع ممن هي عنده التي استدلوا عليها بالأوراق فظهر له ودائع في عدة أماكن وصناديق مال وغير ذلك ولم يتعرض لمنزله ولا لحريمه.

.شهر شوال سنة 1227:

واستهل شهر شوال بيوم الأربعاء في رابعه يوم السبت قدم قابجي من إسلامبول وعلى يده مقرر للباشا بولاية مصر على السنة الجديدة ومعه فروة لخصوص الباشا فلما وصل إلى بولاق فنزل كتخدا بك لملاقاته فركب في موكب جليل وخلفه النوبة التركية وشق من وسط البلد وصعد إلى القلعة وحضر الأشياخ وأكابر دولتهم وقرئ المرسوم بحضرة الجميع فلما انقضى الديوان ضربوا عدة مدافع من القلعة.
وفيه، ألبس شيخ السادات ابن أخيه سيدي أحمد خلعة وتاجاً وجعله وكيلاً عنه في نقابة الأشراف وأركبه فرساً بعباءة ومشى أمامه أيضاً الجاويشية المختصين بنقيب الأشراف وأمره بأن يذهب إلى الباشا ويقابله ليخلع عليه وأرسل في صحبته محمد أفندي فقال مبارك وأشار إليه محمد أفندي بأن يخلع عليه فروة فقال الباشا أن عمه جعله نائباً عنه ووكيلاً فليس له عندي تلبيس لأنه لم يتقلدها بالأصالة من عندي فقام ونزل من غير شيء إلى داره بجوار المشهد الحسيني.
وفي يوم الخميس ثالث عشرينه، سافر مصطفى بك دالي باشا بجميع الدلاة وغيرهم من العسكر إلى الحجاز وحصل للناس في هذا الشهر عدة كربات منها وهو أعظمها عدم وجود الماء العذب وذلك في وفت النيل وجريان الخليج من وسط المدينة حتى كاد الناس يموتون عطشاً وذلك بسبب أخذهم الحمير للسخرة والرجال لخدمة العسكر المسافرين وغلو ثمن القرب التي تشترى لنقل الماء فإن الباشا أخذ جميع القرب الموجودة بالوكالة عند الخليلية وما كان بغيرها أيضاً حتى أرسل إلى القدس والخليل فأحضر جميع ما كان بهما وبلغت الغاية في غلو الأثمان حتى بيعت القربة والواحدة التي كان ثمنها مائة وخمسين نصفاً بألف وخمسمائة نصف ويأخذون أيضاً الجمال التي تنقل الماء بالروايا إلى الأسبلة والصهاريج وغيرهما من الخليج فامتنع الجميع عن السراح والخروج واحتاج العسكر أيضاً إلى الماء فوقفوا بالطرق يرصدون مرور السقائين أو غيرهم من الفقراء والذين ينقلون الماء بالبلاليص والجرار على رؤوسهم فيوجد على كل موردة من الموارد عدة من العسكر وهم واقفون بالأسلحة ينتظرون من يستقي من السقائين أو غيرهم فكان الخدم والنساء والفقراء والبنات والصبيان ينقلون بطول النهار والليل بالأوعية الكبيرة والصغيرة على رؤوسهم بمقدار ما يكفيهم للشرب وبيعت القربة الواحدة بخمسة عشر نصف فضة وأكثر وشح وجود اللحم وغلا في الثمن زيادة على سعره المستمر حتى بيع بثمانية عشر نصف فضة كل رطل هذا إن وجد والجاموسي الجفيط بأربعة عشر وطلبوا للسفر طائفة من القبانية والخبازين ومن أرباب الصنائع والحرف وشددوا عليهم الطلب في أواخر الشهر فتغيبوا وهربوا فسمرت بيوتهم وحوانيتهم وكذلك الخبازون والفرانون بالطوابين والأفران حتى عدم الخبز من الأسواق ولم يجد أصحاب البيوت فرناً يخبزون فيه عجينهم فمن الناس القادرين على الوقود من يخبز عجينه في داره أو عند جاره الذي يكون عنده فرن أو عند بعض الفرانين الذي تكون فرنه بداخل عطفة مستورة خفية أو ليلاً من الخوف من العسس والمرصدين لهم وكذلك عدم وجود التبن بسبب رصد العسكر في الطرق لأخذ ما يأتي به الفلاحون من الأرياف فيخطفونه قبل وصوله إلى المدينة وحصل بسبب هذه الأحوال المذكورة شبكات ومشاجرات وضرب وقتل وتجريح أبدان ولولا خوف العسكر من الباشا وشدته عليهم حتى القتل إذا وصلت الشكوى إليه لحصل أكثر من ذلك.

.شهر ذي القعدة سنة 1227:

واستهل شهر ذي القعدة بيوم الجمعة في سابعه يوم الخميس سافر الباشا هجانا إلى السويس وصحبته حسن باشا.
وفي يوم الجمعة خامس عشره، وصل مبشرون من ناحية الحجاز وهم أتراك على الهجن والخبر عنهم أن عساكرهم وصلوا إلى المدينة المنورة ونزلوا بفنائها.
وفي يوم الأحد سابع عشره، ورجع الباشا مكن ناحية السويس إلى مصر وفيه، وردت أخبار لطائفة الفرنساوية وقنصلهم المقيمين بمصر بأن بونابارته وعساكر الفرنساوية زحفوا في جمع عظيم على بلاد المسكوب ووقع بينهم حروب عظيمة فكانت الهزيمة على المسكوب وانكسروا كسرة قوية وكتبوا بذلك أوراقاً ألصقوها بحيطان دوائرهم وحاراتهم ولما حضر الباشا طلع إليه القنصل وأخبره بتلك الأخبار وأطلعه على الكتب الواردة من بلادهم.
وفي ليلة الثلاثاء، عدى الباشا إلى بر الجزيرة وأمر بخروج العساكر إلى البر الغربي وعدى أيضاً كتخدا بك بسبب أن عربان أولاد علي نزلوا بناحية الفيوم بجمع عظيم وأكلوا الزروعات فخرج إليهم حسن آغا الشماشرجي فوزن نفسه معهم فرأى أنه لا يقاومهم لكثرتهم فحضر إلى مصر وأخبر الباشا وتحرك الباشا للخروج إليهم ثم بعقيبه أرسل لهم وخادعهم فحضر إليه عظماؤهم فأخذ منهم رهائن وخلع عليهم وكساهم وأعطاهم راحتهم وعين لهم جهات وشرط عليهم أن لا يتعدوها ثم رجع وعدى إلى بر مصر في ليلة الخميس حادي عشرينه.
وفي سادس عشرينه، نهب العرب القافلة القادمة من السويس بحمل بضائع التجار وغيرهم وقتلوا العسكر الذين بصحبتهم وخفارتهم وأخذوا الجمال بأحمالها وذهبوا بها لناحية الوادي والجمال المذكورة على ملك الباشا وأتباعه لأنهم صيروا لهم جمالاً وأعدوها لحمل البضائع ويأخذون أجرتها لأنفسهم بدلاً عن جمال العرب وذلك من جملة الأمور التي احتكروها طمعاً وحسداً في كل شيء ولم ينج من الجمال إلا البعض الذين سبقوهم وهم لكتخدا بك فحنق لذلك الباشا وأرسل في الحال مراسلات إلى سليمان باشا محافظ عكا يعلمه بذلك ويلزمه بإحضارها ويتوعده إن ضاع منها عقال بعير والذي ذهب بالمراسلة إبراهيم أفندي المهردار.

.شهر ذي الحجة سنة 1227:

واستهل شهر ذي الحجة بيوم السبت في عاشره يوم الأضحى وردت هجانة من ناحية الحجاز وعلى يدهم البشائر بالاستيلاء على قلعة المدينة المنورة ونزول المتولي بها على حكمهم وأن القاصد الذي أتت بشائره وصل إلى السويس وصحبته مفاتيح المدينة فحصل للباشا بذلك سرور عظيم وضربوا مدافع وشنكاً بعد مدافع العيد وانتشرت المبشرون على بيوت الأعيان لأجل أخذ البقاشيش.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره، وصل القادمون إلى العادلية فعملوا لقدومهم شنكاً عظيماً وضربوا مدافع كثيرة من القلعة وبولاق والجيزة وخارج قبة العزب حيث العرضي العد للسفر وأيضاً ضربوا بنادق كثيرة متتابعة من جميع الجهات حتى من أسطحة البيوت الساكنين بها واستمر ذلك أكثر من ساعتين فلكيتين، فكان شيئاً مهولاً مزعجاً وأشيع في الناس دخول الواصلين في موكب واختلفت رواياتهم وخرج الباشا إلى ناحية العادلية فاصطف الناس على مصاطب الدكاكين والسقائف للفرجة، فلما كان قريب الغروب دخل طائفة من العسكر وصحبتهم بعض أشخاص راكبين على الهجن وفي يد أحدهم كيس أخضر وبيد الآخر كيس أحمر بداخلهما المكاتبات والمفاتيح وعاد الباشا من ليلته وصعد إلى القلعة هذا والمدافع والشنك يعمل في كل وقت من الأوقات الخمسة وفي الليل وفي صبح يوم الأربعاء شق الآغا والوالي وآغات التبديل وأمامهم المناداة على الناس بتزيين الأسواق وما فيها من الحوانيت والدور ووقود القناديل والتعاليق ويسهرون ثلاث ليال بأيامها أو لها يوم الخميس وآخرها يوم السبت الذي هو خامس عشره وأخرجوا طاقات وخياماً إلى خارج بابي النصر والفتوح وخرج الباشا في ثاني يوم إلى ناحية العادلية وهو ليلة يوم الزينة وعملوا حراقات ونفوطاً وسواريخ ومدافع من كل ناحية مدة أيام الزينة وكتبت البشائر إلى جميع النواحي وأنعم الباشا بأمريات ومناصب على عشرين شخصاً من خواصه وعين لطيف بك آغات المفتاح للتوجه إلى دار السلطنة بالبشائر والمفاتيح صحبته وسافر في صبح يوم الزينة على طريق البر وتعين خلافه أيضاً للسفر بالبشائر إلى البلاد الرومية والشامية والأساكل الإسلامية مثل بلاد الأنضول والرومنلي ورودس وسلانيك وأزمير وكريت وغيرهما.
وفي أواخره، وردت الأخبار المترافدة بوقوع الطاعون الكثير بإسلامبول فأشار الحكماء على الباشا بعمل كورنتينة بالإسكندرية على قاعدة اصطلاح الإفرنج ببلادهم فلا يدعون أحداً من المسافرين الواردين في المراكب من الديار الرومية يصعد إلى البر إلا بعد مضي أربعين يوماً من وروده، وإذا مات بالمركب أحد في أثناء المدة استأنفوا الأربعين.
وفيه، وشى بعض اليهود على الحاج سالم الجواهرجي المباشر لإيراد الذهب والفضة إلى الضربخانة وانعزل عنها، كما ذكر في وسط السنة عند ورود الرجل النصراني الدرزي الشامي بأنه كان في أيام مباشرته للإيراد يضرب لنفسه دنانير خارجة عن حساب الميري خاصة به فأمر الباشا بإثبات ذلك وتحقيقه فحصل كلام كثير والحاج سالم يجحد ذلك وينكره فقال له أيوب تابعك الذي كان ينزل آخر النهار بالخرج على حماره في كل يوم بحجة الأنصاف العددية التي يفرقها على الصيارف بالمدينة وأكثر ما في الخرج خاص بك فأحضروا أيوب المذكور وطلبوه للشهادة فقال لا أشهد بما لا أعلم، ولم يحصل هذا مطلقاً ولا يجوز لي ولا يخلصني من الله أن أتهم الرجل بالباطل فقال اليهودي هذا رفيقه وصاحبه وخادمه ولا يمكنه أن يخبر ويقر إلا إذا خوف وعوقب وإذا ثبت قولي فإنه يطلع عليه ستة آلاف كيس، فلما سمع الباشا قول اليهودي ستة آلاف كيس أمر بحبس الحاج سالم، ثم أحضروا اخوته والحاج أيوب وسجنوهم وضربوهم والباشا يطلب ستة آلاف كيس، كما قال اليهودي واستمروا في ذلك أياماً وذلك الحبس عند قرأ علي بجوار بيت الحريم بالأزبكية وسبب خصومة شمعون اليهودي مع الحاج سالم أنهم احتجوا على اليهودي بأشياء وقرروا عليه غرامة أيضاً فطلب من الحاد سالم المساعدة وقال له ساعدني كما ساعدتك في غرامتك فقال الحاج سالم إنك لم تساعدني بمال من عندك بل هو من حسابي معك فقال اليهودي ألست كنت أداري عليك فيما تفعله واتسع الكلام بينهما وحضرة الباشا وأعوانه مترقبون لحادث يستخرجون به الأموال بأي وجه كان ويتقولون ويوقعون بين هذا وهذا والناس أعداء لبعضهم البعض تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى. ثم إن السيد محمداً المحروقي خاطب الباشا في شأن الحاج سالم وحلف عليه أن الغرامة الأولى تأخر عليه منها ثلثمائة كيس استدانها من الأوربيين ودفعها وهي باقية عليه إلى الآن ومطلوبة منه وذلك بعد أن باع أملاكه وحصة التزامه فإذا كان ولا بد من تغريمه ثانياً فإننا نمهل أصحاب الديون ونقوم بدفع الثلثمائة كيس المطلوبين للمداينين وندفعها للخزينة فأجابه لذلك وأمر بالإفراج عن الحاج سالم واخوته ومن معه فدفعوا القرا على المتولي سجنهم وعقوبتهم وإتباعه سبعة أكياس.
وفيه اشتد الأمر على إسمعيل أفندي أمين عيار الضربخانة وأولاده بالطلب من أرباب الحوالات مثل دالي باشا وخلافه وضيق العسكر المعينون عليهم منافسهم ولازموا دورهم ولم يجدوا شافعاً ولا دافعاً ولا رافعاً فباعوا أملاكهم وعقاراتهم وفراشهم ومصاغ حريمهم وأوانيهم وملابسهم وكان الباشا أخذ من إسمعيل أفندي المذكور داره التي بالقلعة عندما انتقل إلى القلعة فأمره بإخلائها ففعل ونزل إلى دار بحارة الروم بالقرب من دار ابنه محمد أفندي فاتخذ الباشا دار إسمعيل أفندي دار لحريمه وأسكنهم بها لأنها دار عظيمة جليلة عمرها المذكور وصرف عليها في الأيام الخالية أموالاً جمة، فلما استولى عليها الباشا أسكن بها حريمه وجواريه وسراريه ولما قرر عليه غرامته أسقط عنه منها عشرين كيساً لا غير وجعلها في ثمن داره المذكورة، وذلك لا يقوم بثمن رخامها فقط، فلما اشتد الحال بإسمعيل أفندي أشار عليه بعض المتشفعين بأن يكتب له عرضحال ويطلع به إلى الباشا صحبة المعلم غالي كبير الأقباط المباشرين ففعل ودخل معه المعلم غالي إلى الباشا فعندما رآه مقبلاً صحبة المذكور أشار إليه بالرجوع ولم يدعه يتكلم فرجع بقهره ونزل إلى داره فمرض وتوفي بعد أيام إلى رحمة الله تعالى ومات قبله ولده حسن أفندي وبقي جميع الطلب على ولده محمد أفندي فحصل له مشقة زائدة باع أثاث بيته وأوانيه وكتبه التي اقتناها وحصلها بالشراء والاستكتاب فباعها بأبخس الأثمان على الصحافين وغيرهم وطال عليه الحال وانقضت مواعيد المداينين له فطالبوه وكربوه فتداين من غيرهم بالربا والزيادة وهكذا والله يحسن لنا وله العاقبة.
وفيه، قدم إلى الإسكندرية قليون من بلاد الإنكليز فيه بضائع وأشياء للباشا ومنها خمسون ألف كيس نقوداً ثمن غلال وخيول يأخذونها من مصر إلى بلادهم فطفقوا يطلبون لهم الخيول من أربابها فيقيسون طولها وعرضها وقوائمها بالأشبار فإن وجدوا ما يوافق غرضهم ومطلوبهم في القياس والقيافة أخذوه ولو بأغلى ثمن وإلا تركوه.
وفيه، أيضاً أرسل الباشا لجميع كشاف الوجه القبلي بحجز جميع الغلال والحجر عليها لطرفه فلا يدعون أحداً يبيع ولا يشتري شيئاً منها ولا يسافر بشيء منها في مركب مطلقاً ثم طلبوا ما عند أهل البلاد من الغلال حتى ما هو مدخر في دورهم للقوت فأخذوه أيضاً ثم زادوا في الأمر حتى صاروا يكسلون الدور ويأخذون من الغلال أقل أو أكثر ولا يدفعون له ثمناً بل يقولون نحسب لكم ثمنه من مال السنة القابلة ويشحنون بذلك جميع مراكب الباشا التي استجدها وأعدها لنقل الغلال ثم يسيرون بها إلى بحري فتنقل إلى مراكب الإفرنج بحساب مائة قرش عن كل أردب وانقضت السنة ولم تنقض حوادثها بل استمر ما حدث بها كالتي قبلها وزيادة.
فمنها، ما أحاط به علمنا وذكرنا بعضه ومنا ما لم يحط به علمنا أو أحاط ونسيناه بحدوث غيره قبل التثبت ومنها أن الباشا عمل ترسخانة عظيمة بساحل بولاق واتخذ عدة مراكب بالإسكندرية لخصوص جلب الأخشاب المتنوعة وكذلك الحطب الرومي من أماكنها على ذمته ويبيعه على الحطابين بما حدده عليهم من الثمن ويحمل في المراكب المختصة به بأجرة محددة أيضاً ويأتي إلى ديوان الكمرك ببولاق فيؤخذ كركه إلى مكسه وهو راجع إليه أيضاً إلى أن استقر سعر القنطار الواحد من الحطب بثلثمائة وخمسة عشر نصف فضة وأجرة حمله من بولاق إلى مصر ثلاثة عشر نصف وأجرة تكسيره مثل ذلك فيكون مجموع ذلك ثلثمائة وأربعين نصف فضة القنطار وقد اشتريناه قبل استيلاء هذه الدولة بثلاثين نصفاً وأجرة حمله في المركب عشرة أنصاف وأجرته من بولاق إلى مصر ثلاثة أصناف وتكسيره كذلك فيكون مجموع ذلك ستة وأربعين نصفاً وكذلك فعل في أنواع الأخشاب الكرسنة والحديد والرصاص والقصدير وجميع المجلوبات واستمر ينشئ في المراكب الكبار والصغار التي تسرح في النيل من قبلي إلى بحري ومن بحري إلى قبلي ولا يبطل الإنشاء والأعمال والعمل على الدوام وكل ذلك على ذمته ومرمتها وعمارتها ولوازمها وملاحوها بأجرتها على طرفه لا بالضمان كما كان في السابق ولهم قومة ومباشرون متقيدون بذلك الليل والنهار.
ومنها، وهي من الحوادث الغريبة التي لم يتفق في هذه الأعصار مثلها إن في أواخر ربيع الآخر احترق بحر النيل وجف بحر بولاق وكثرت فيه الرمال وعلت فوق بعضها حتى صارت مثل التلول وانحسر الماء حتى كان الناس يمشون إلى قريب أنبابة بمداساتها وكذلك بحر مصر القديمة بقي مخاضاً وفقدت أهل القاهرة الماء الحلو واشتد بالناس العطش بسبب ذلك وبسبب تسخير السقائين ونادى الآغا والوالي على أن يكون حمل القربة للمكان البعيد باثني عشر نصف فضة استهل شهر بشنس القبطي فزد النيل في أوله في ليلة واحدة نحو ذراع ثم كان يزيد في كل يوم وليلة مثل دفعات أواخر أبيب ومسرى وجرى بحر بولاق ومصر القديمة وغطى الرمال وسارت فيه المراكب الكبار منحدرة ومقلعة وغرقت المقافئ مثل البطيخ والخيار والعبد اللاوي وما كان مزروعاً بالسواحل وهو شيء كثير جداً استمرت الزيادة نحو عشرين يوماً حتى تغير وابيض وكاد يحمر وداخل الناس من ذلك وهم عظيم من هذه الزيادة التي في غير وقتها حتى اعتقدوا أنه يوفي أذرع الوفاء قبل نزول النقطة ولم يعهد مثل ذلك وكان ذلك رحمة من الله بعبيده الفقراء العطاش ثم إني طالعت في تاريخ الحافظ المقريزي المسمى بالسلوك في دول الملوك فذكر مثل هذه النادرة في سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة ولما ترافدت هذه الزيادات خرج الوالي إلى قنطرة السد وجمع الفعلة للعمل في سد فم الخليج ونادى على نزح الخليج وتنظيفه وكسح أوساخه وقطع أرضه ثم وقفت الزيادة بل نقص قليلاً وزاد في أوان الزيادة على العادة وأوفي أذرعه في أيامه المعتادة فسبحان الفعال.
ومنها، شحة الغلال وخلو السواحل منها فلا يجد الناس إلا ما بقي بأيدي فلاحي الجهات البحرية القريبة فيحملونه على الحمير إلى العرصات والرقع ويبيعونه على الناس كل أردب بأربعة وعشرين قرشاً خلاف المكس والكلف واستقر مكس الأردب الواحد أربعة وثلاثين نصف فضة وأجرته إذا كان من طريق البحر من المنوفية أو نحوها مائة نصف وأقل وأكثر وأجرته من بولاق إلى مصر خمسة وعشرون نصفاً.
ومنها، أنه لما تنظم له ملك بلاد الصعيد ولم يبق له فيه منازع وقلد إمارته لابنه إبراهيم باشا ورسم بأن يضبط جميع أطيان بلاد الصعيد حتى الرزق الأحباسية المرصدة على المساجد والخيرات الكائنة بمصر وغيرها وأوقاف سلاطين مصر المتقدمين وخيراتهم ومساجدهم ومكاتبهم وصهاريجهم ووظائف المدرسين والمقرئين وغير ذلك ففعل ذلك وراك الأراضي بأسرها وشاع أنه جعل على كل فدان من أراضي الرزق والأوقاف ثلاثة ريالات لا غير وعلى باقي فدادين الأطيان ثمانية ريالات خلاف النباري وهو مزارع الذرة فجعل على كل عود من عيدان القطوة سبعة ريالات فرضي أصحاب الرزق والأطيان بهذا التنظيم وظنوا استمراره فإن الكثير من المرتزقة ما كان يحصل له من مزارعي رزقته مقدار ما يحصل له على هذا الحساب.
ومنها، أنه رسم له بالحجر على جميع حصص الالتزام فلم يبق لأربابها شيئاً إلا ما ندر وهو شيء قليل جداً واحتج في ذلك باستيلاء الأمراء المصريين عليها عندما خرجوا من مصر وأقاموا بالبلاد القبلية فوضعوا أيديهم على ذلك وأنه حاربهم وطردهم وقتلهم وورث ما كان بأيديهم بحق أو باطل وسموه المضبوط وأما ما كان بأيدي أربابه أيام استيلاء المصريين وهم الملتزمون القاطنون بالبلاد القبلية أو بمصر ممن يراعي جانبه فإنه إذا عرض حاله وطلب إذناً في التصرف وأخبر بأنه كان مفروجاً عنه أيام استيلاء المصريين وأثبت ذلك بالكشف من الروزنامة وغيرها فأما أن يؤذن له في التصرف أو يقال له نعوضك بدلها من البلاد البحرية ويسوف وتتمادى الأيام أو يحيل ذلك على ابنه إبراهيم باشا ويقول إنا لأعلقه في البلاد القبلية والأمر فيها لإبراهيم باشا وإذا ذهب لإبراهيم باشا يقول له أنا أعطيك الغائط فإن رضي أعطاه شيئاً نزراً ووعده بالإعطاء وإن لم يرض قال له هات لي إذناً من أفندينا وكل منهما إما مرتحل أو مسافر أو أحدهما حاضر والآخر غائب فيصير صاحب الحاجة كالجملة المعترضة بين الشارط والمشروط وأمثال ذلك كثير.
ومنها، الاستيلاء على جميع مزارع الأرز بالبحر الغربي والشرقي ورقب لهم مباشرين وكتاباً يصرفون عليهم من الكلف والتقاوي والبهائم ويؤخذ ذلك جميعه من حساب الفرض التي قررها على النواحي وعند استغلال الأرز يرفعونها بأيديهم ويسعرونها بما يريدونه ويستوفون المصاريف ومعاليم القومة والمباشرين المعين لهم وإن فضل بعد ذلك شيء أعطوه للمزارع أو أخوه منه وأعطوه ورقة يحاسب بها في المستقبل وفرض على كل دائرة من دوائر الأرز خمسة أكياس في كل سنة خلاف المقرر القديم وعلى كل عود ثلاثة أكياس فإذا كان وقت الحصاد وزنوه شعيراً على أصحاب الدوائر والمناشر حتى إذا صلح وابيض حسبوا كلفه من أصل المقرر عليهم فإن زاد لهم شيء أعطوهم به ورقة وحاسبوا بها من قابل وأبطل تعامل المزارعين مع التجار الذين كانوا معتادين بالصرف عليهم واستقر الحال إلى أن صار جميعه أصلاً وفرعاً لديوان الباشا ويباع الموجود على ذمته لأهل الأقاليم المتسببين وغيرهم وهو عن كل أردب مائة قرش بل وزيادة وللإفرنج وبلاد الروم والشام بما لا أدري.
ومنها، أنه حصل بين عبد الله آغا بكتاش الترجمان وبين النصراني الدرزي منافسة وهو الذي حضر من جبل الدروز ويسمى الياس واجتمع بمصر على من أوصله إلى الباشا وهو بكتاش وخلافه وعرفوه عن صناعته وأنه يعمل آلات بأسهل مما يصنعه صناع الضربخانة ويوفر على الباشا كذا وكذا من الأموال التي تذهب في الدواليب والكلف وما يأخذه المباشرون من المكاسب لأنفسهم وأفرد له بقعة خاصة به بجانب الضربخانة وأمر بحضور ما يطلبه إليه من الحديد والصناع واستمر على ذلك شهوراً ولما تمم الآلة صنع قروشاً وضربها ناقصة في الوزن والعيار وجعل كتابتها على نسق القروش الرومية ووزن القرش درهمان وربع وفيه من الفضة الخالصة الربع بل أقل والثلاثة أرباع نحاس وكان المرتب في الأموال من النحاس في كل يوم قنطارين فضوعف إلى ستة قناطير حتى غلا سعر النحاس والأواني المتخذة منه فبلغ سعر الرطل النحاس المستعمل مائة وأربعين نصف فضة بعد أن كان سعره في الأزمان السابقة أربعة عشر نصفاً والفراضة سبعة أنصاف أو أقل ثم زاد الطلب للضربخانة إلى عشرة قناطير في كل يوم والمباشر لذلك كله بكتاش أفندي ثم إن بكتاش أفندي المذكور انحرف على ذلك الدرزي وذلك بإغراء المعاير وحصل بينهما مناقشة بين يدي الباشا والمعلم غالي بينهم وانحط الأمر في ذلك المجلس على منع الدرزي من مباشرة العمل ورتب له الباشا أربعة أكياس لمصرفه في كل شهر ومنعوا أيضاً من كان معه من نصارى الشوام من الطلوع الضربخانة واستمر بكتاش أفندي ناظراً عليها ودقق على أرباب الوظائف والخدم ليأخذ بذلك وجاهة عند مخدومه ثم إن الباشا بعد أيام أمر بنفي الدرزي من مصر وجميع أهله وأولاده وانقضى أمره بعد أن تعلموا تلك الصناعة منه وفي تلك المدة بلغ إيراد الضربخانة لخزينة الباشا في كل شهر ألفاً وخمسمائة كيس وكان الذي يرد منها في زمن المصريين ثلاثين كيساً في كل شهر أو أقل من ذلك فلما التزم بها السيد محمد المحروقي أوصلها إلى خمسين واستمرت على ابنه السيد محمد كذلك مدة فانتبذ لها محمد أفندي طبل المعروف بناظر المهمات وزاد عليها ثلاثين كيساً وبقيت تحت نظارة المحروقي بذلك القدر ثم إن الباشا عزل السيد محمد المحروقي عناه وأبقاها على ذمته وقيد خاله في نظارتها ولم يزل الباشا يلعب هذه الملاعيب حتى بلغت هذا المبلغ المستمر وربما تزيد وذلك خلاف الغرامات والمصادرات لأربابها ثم وشى له على عبد الله آغا بكتاش بأنه يزيد في وزن القروش وينقص منه عن القدر المحدود فإذا حسب القدر المنقوص وعمل معدله في مدة نظارته تحصل منه مقدار عظيم من الأكياس فلما نوقش في ذلك قال هذا الأمر يسأل فيه صاحب العيار فأحضروه وأحضروا محمد أفندي ابن إسمعيل أفندي بدفتره وتحاققوا في الحساب فسقط منهم خمسة أكياس لم تدخل الحساب فقالوا أين ذهبت هذه الخمسة أكياس فطفقوا ينظرون إلى بعضهم فقال المورد الحق أن هذه الخمسة أكياس من حساب محمد أفندي ومطلوبة له وتجاوز عنها لفلان اليهودي المورد من مدة سابقة فالتفت الباشا إلى محمد أفندي وقال له لأي شيء تجاوزت لليهودي عن هذا القدر فقال لعلمي أنه خلي ليس عنده شيء فأخذتني الرأفة عليه وتركت مطالبته حتى يحصل له اليسار فقال كيف تنعم بمالي على اليهودي فقال إنه من حسابي فقال ومن أين كان لك ذلك وأمر به فبطحوه وضربوه بالعصي ثم أقاموه وأضافوا الخمسة أكياس على باقي الغرامة المطلوبة منه التي هو متحير في تحصيلها ولو بالاستدانة من الربويين كما قال القائل شكوت جلوس إنسان ثقيل فجاءوني بمن هو منه أثقل فكنت كمن شكا الطاعون يوماً، فزاده على الطاعون دمل. ومحمد أفندي هذا من وجهاء الناس وخيارهم يفعل به هذه الفعال ثم انحط الحال مع بكتاش أفندي على أن فرض عليه ستمائة كيس يقوم بدفعها فقال ويعفوني أفندينا من نظارة الضربخانة فلم يجبه إلى ذلك واستمر في تلك الخدمة مكرهاً خائفاً من عواقبها.
ومنها، أن الريال الفرانسة بلغ في مصارفته من الفضة العددية إلى مائتين وثمانين نصفاً بل وزيادة خمسة أنصاف فنودي عليه بنقص عشرة وشددوا في ذلك وبعد أيام نودي بنقص عشرة أخرى فخسر الناس حصة من أموالهم ثم إن ذلك القرش الذي يضاف إليه من الفضة ربع درهم ووزن الريال تسعة دراهم فضة فيكون الريال الواحد بما يضاف إليه من النحاس على هذا الحساب ستة وثلاثين قرشاً يخرج منها ثمن الريال ستة قروش ونصف وكلفة الشغل في الجملة قرش أو قرشان يبقى بعد ذلك سبعة وعشرون قرشاً ونصف وهو المكسب في الريال الواحد وهو من جملة سلب الأموال لأن صاحب الريال إذا أراد صرفه أخذ بدله ستة قروش ونصفاً وفيها من الفضة الدرهم ونصف وثمن وهي بدل التسعة دراهم التي هي وزن الريال ثم زيد في الطنبور نغمة وهي الحجر على الفضة العددية فلا يصرفون شيئاً منها للصيارف ولا لغيرهم إلا بالفرط وهو أربعة قروش على كل ألف فيعطي للضربخانة تسعة وعشرون قرشاً زلائط ويأخذ ألف فضة عنها خمسة وعشرون قرشاً ثم زادوا بعد ذلك في الفرط فجعلوه خمسة قروش فيعطي ألفاً ومائتين ويأخذ بدلها ألفاً فانظر إلى هذه الزيادة والرذالة وكذا السفالة.
ومنها، استمرار غلاء الأسعار في كل شيء وخصوصاً في الأقوات التي لا يستغني عنها الغني والفقير في كل وقت بسبب الأحداثات والمكوس التي ترتبت على كل شيء ومنها المأكولات كاللحم والسمن والعسل والسكر وغير ذلك مثل الخضارات وإبطال جميع المذبح خلاف مذبح الحسينية والتزم به المحتسب بمبلغ عظيم مع كفاية لحم الباشا وأكابر دولته بالثمن القليل ويوزع الباقي على الجزارين بالسعر الأعلى الذي يخرج منه ثمن لحوم الدولة من غير ثمن فينزل الجزار بما يكون معه من الغنمة أو الاثنين الجفيط إلى بيت أو عطفة مستورة فتزدحم عليه المتتبعون له والمنتظرون إليه ويقع بينهم من المضاربة والمشاجرة ما لا يوصف وثمن الرطل اثنا عشر نصفاً وقد يزيد على ذلك ولا ينقص عن باثني عشر وكذلك الخضراوات التي كانت تباع جزافاً تباع بأقصى القيمة حتى أن الخس مثلاً الذي كان يباع كل عشرة أعداد بنصف واحد صارت الواحدة تباع بنصف وقس على ذلك باقي الخضراوات وأن الباشا لما وضع يده على الأراضي القريبة وأنشأ السواقي تجاه القصر والبساتين بناحية شبرا وحرث الأراضي الخرس وزرع فيه أنواع الخضراوات وأجرى عليها المياه وقيد لخدمتها المرابعين أيضاً والمزارعين بالمؤاجرة والمباشر على ذلك كله ذو الفقار كتخدا وعندما يبدو صلاح البقول والخضراوات يبيعها المتسببين فيها بأغلى ثمن وهم يبيعونها على الناس بما أحبوا وشاع بين الناس إضافة ذلك إلى الباشا فيقولون كرنب الباشا ولفت الباشا وملوخية الباشا وفجل الباشا وقرنبيط الباشا وزرع أيضاً بستانه من أنواع الزهور العجيبة المنظر المتنوعة الأشكال من الأحمر والأصفر والأزرق والملون أتوا بنقائها من بلاد الروم فنتجت وأفلحت وليس لها إلا حسن المنظر فقط ولا رائحة لها أصلاً.
ومنها، إن ديوانا المكس ببولاق الذي يعبرون عنه الكمرك لم يزل يتزايد فيه المتزايدون حتى أوصلوه إلى ألف وخمسمائة كيس في السنة وكان في زمن المصريين يؤدي من يلتزمه ثلاثين كيساً مع محاباة الكثير من الناس والعفو عن كثير من البضائع لمن ينسب إلى الأمراء وأصحاب الوجاهة من أهل العلم وغيرهم فلا يتعرضون له ولو تحامى في بعض أتباعهم ولو بالكذب ويعاملون غيرهم بالرفق مع التجاوز الكثير ولا ينبشون المتاع ولا رباط الشيء المحزوم بل على الصندوق والمحزوم قدر يسير معلوم فلما ارتفع أمره إلى هذه المقادير صاروا لا يعفون عن شيء مطلقاً ولا يسامحون أحداً ولو كان عظيماً من العلماء أو غيرهم وكان من عادة التجار إذا بعثوا إلى شركائهم محزوماً من الأقمشة الرخيصة مثل العاتكي والنابلسي جعلوا بداخل طيها أشياء من الأقمشة الغالية في الثمن المقصبات الحلبي والكشميري والهندي ونحو ذلك فتتدرج معها في قلة الكمرك وفي هذا الأوان يحلون رباط المحزوم ويفتحون الصناديق وينبشون المتاع ويهتكون ستره ويحصون عدده ويأخذون عشرة أي من كل عشرة واحداً أو ثمنه كما يبيعه التاجر غالياً أو رخيصاً حتى البوابيج والأخفاف والمسوت التي تجلب من الروم يفتحون صناديقها ويعدونها بالواحد ويأخذون عشورها عيناً أو ثمناً ويفعل ذلك أيضاً متولي كمرك الإسكندرية ودمياط وإسلامبول والشام فبذلك غلت أسعار البضائع من كل شيء لفحش هذه الأمور وخصوصاً في الأقمشة الشامية والحلبية والرومية المنسوجة من القطن والحرير والصوف فإن عليها بمفردها مكوساً فاحشة قبل نسجها وكان الدرهم الحرير في السابق بنصف فضة فصار الآن بخمسة عشر نصفاً وما يضاف إليه من الأصباغ وكلف الصناع والمكوس المذكورة فبذلك بلغ الغاية من غلو الثمن فيباع الثوب الواحد من القماش الشامي المسمى بالألاجة الذي كانت قيمته في السابق مائتي نصف فضة بألفين فضة مع ما يضاف إليه من ربح البائع وطمع التاجر والنعل الرومي الذي كان يباع بستين نصفاً يباع بأربعمائة نصف والذراع الواحد من الجوخ الذي كان يباع بمائة نصف فضة بلغ في الثمن إلى ألف نصف فضة وهكذا مما يستقصى تتبعه ولا تستقصى مفرداته ويتولى هذه الكمارك كل من تزايد فيها من أي ملة كان من نصارى القبط أو الشوام والأروام ومن يدعي الإسلام وهم الأقل في الأشياء المدون والمتولي الآن في ديوان كورك بولاق شخص نصراني رومي يسمى كرابيت من طرف طاهر باشا لأنه مختص بإيراده وأعوان كرابيت من جنسه وعنده قواسة أتراك يحجزون متاع الناس ويقبضون على المسلمين ويسجنونهم ويضربونهم حتى يدفعوا ما عليهم وإذا عثروا بشخص أخفى عنهم شيئاُ حبسوه وضربوه وسبوه ونكلوا به وألزموه بغرامة مجازاة لفعله والعجب أن بضائع المسلمين يؤخذ عشرها يعني من العشرة واحد وبضائع الإفرنج والنصارى ومن ينتسب إليهم يؤخذ عليها من المائة اثنان ونصف وكذلك أحدث عدة أشياء واحتكارات في كثير من البضائع مثل السكر الذي يأتي من ناحية الصعيد وزيادات في المكوس القديمة خلاف المحدثات وذلك أن من كان بطالاً أو كاسد الصنعة أو قليل الكسب أو خامل الذكر فيعمل فكرته في شيء مهمل عنه ويسعى إلى الحضرة بواسطة المتقربين أو بعرضحال يقول فيه أن الداعي للحضرة يطلب الالتزام بالصنف الفلاني ويقول للخزينة العامرة بكذا من الأكياس في كل سنة فإذا فعل تنبه المشار إليه فيعد بالإنجاز ويؤخر أياماً فتتسامع المتكالبون على أمثال ذلك فيزيدون على الطالب حتى تستقر الزيادة على شخص أما هو وخلافه ويقيد اسمه بدفتر الروزنامة ويفعل بعد ذلك الملتزم ما يريده وما يقرره على ذلك الصنف ويتخذ له أعواناً وخدمة وأتباعاً يتولون استخلاص المقررات ويجعلون لأنفسهم أقدار خارجة عن الذي يأخذه كبيرهم والذي تولى كبر ذلك وفتح بابه نصارى الأروام والأرمن فترأسوا بذلك وعلت أسافلهم ولبسوا الملابس الفاخرة وركبوا البغال والرهوانات وأخذوا بيوت الأعيان التي بمصر القديمة وعمروها وزخرفوها وعملوا فيها بساتين وجنائن وذلك خلاف البيوت التي لهم بداخل المدينة ويركب الواحد منهم وحوله وأمامه عدة من الخدم والقواسة يطردون الناس من أماه وخلفه ولم يدعو شيئاً خارجاً عن المكس حتى الفحم الذي يجلب من الصعيد والحطب السنط والرتم وحطب الذرة الذي كان يباع منه كل مائة حزمة بمائة نصف فلما احتكروه صار يباع كل مائة حزمة بألف ومائتي نصف وبسبب ذلك تشحطت أشياء كثيرة وغلت أثمانها مثل الجبس والجبر وكل ما كان يحتاج للوقود حتى الخبازين في الأفران فإننا أدركنا الأردب من الجبس بثمانية عشر نصف فضة والآن بمائتين وأربعين نصفاً وكذلك أدركنا القنطار من الجير بعشرة أنصاف والآن بمائة وعشرين والحال في الزيادة. ار يباع كل مائة حزمة بألف ومائتي نصف وبسبب ذلك تشحطت أشياء كثيرة وغلت أثمانها مثل الجبس والجبر وكل ما كان يحتاج للوقود حتى الخبازين في الأفران فإننا أدركنا الأردب من الجبس بثمانية عشر نصف فضة والآن بمائتين وأربعين نصفاً وكذلك أدركنا القنطار من الجير بعشرة أنصاف والآن بمائة وعشرين والحال في الزيادة.
ومنها، أن الباشا شرع في عمارة قصر العيني وكان قد تلاشى وخربته العسكر وأخذت أخشابه ولم يبق فيه إلا الجدران فشرع في إنشائه وتعميره وتجديده على هذه الصورة التي هو عليها الآن في وضع الأبنية الرومية.
ومنها، أنه هدم سراية القلعة وما اشتملت عليه من الأماكن فهدم المجالس التي كانت بها والدواوين وديوان قايتباي وهو المقعد المواجه للداخل إلى الحوش علو الكلار الذي به الأعمدة وديوان الغوري الكبير وما اشتمل عليه من المجالس التي كانت تجلس بها الأفندية والقلفاوات أيام الدواوين وشرع في بنائها على وضع آخر واصطلاح رومي وأقاموا أكثر الأبنية من الأخشاب ويبنون الأعالي قبل بناء السفل وأشيع أنهم وجدوا مخبأت بها ذخائر الملوك مصر الأقدمين.
ومنها، أن الباشا أرسل لقطع الأشجار المحتاج إليها في عمل المراكب مثل التوت والنبق من جميع البلاد القبلية والبحرية فانبث المعينون لذلك في البلاد فلم يبقوا من ذلك إلا القليل لمصانعة أصحابه بالرشا والبراطيل حتى يتركوا لهم ما يتركون فيجتمع بترسخانة الأخشاب لصناعة المراكب مع ما ينضم إليها من الأخشاب الرومية شيء عظيم جداً يتعجب منه الناظر من كثرته وكلما نقص منه شيء في العمل اجتمع خلافه أكثر منه.
ومنها، أن أحمد آغا أخا كتخدا بك لما تقلد وكالة دار السعادة ونظارة الحرمين انضم إليه أباليس الكتبة لتحرير الإيراد والمصرف وحصروا الأحكار المقررة على الأماكن والأطيان التي أجرها النظار السابقون المداد الطويلة وجعلوا عليها قدراً من المال يقبض في كل سنة لجهة وقف أصله على عادة مصر السابقة واللاحقة في استئجار الأوقاف من نظارها والأطيان والأماكن المستأجرة من أوقاف الحرمين وتوابعها كالدشيشة والخاصكية والمحمدية والمرادية وغير ذلك جداً ففتحوا هذا الباب وتسلطوا على الناس في طلب ما بأيديهم من السندات وحجج التأجرات فإذا اطلعوا عليها فلا يخلو غما أن تكون المدة قد انقضت ومضت أو بقي منها بقية من السنين فإذا كان بقي منها زادوا في الأجرة المؤجلة التي هي الحكر مثلها أو مثليها بحسب حال المحل ورواجه وإن كانت المدة قد انقضت ومضت واستولوا على حين المحل وضبطوه وجددوا له تأجراً وزادوا في حكره ويكون ذلك لمصلحة جسيمة وعلى كلتا الحالين لا بد من التغريم والمصالحات الجوانية والبرانية للكتاب والمباشرين والخدم والمعينين ثم المرافعة إلى القاضي ودفع المحاصيل والرسوم والتسجيل وكتابة السندات التي يأخذها واضع اليد.
ومنها، التحجير على الأجراء والمعمرين المستعملين في الأبنية والعمائر مثل البنائين والنجارين والنشارين والخراطين وإلزامهم في عمائر الدولة بمصر وغيرها بالإجارة والتسخير واختفى الكثير منهم وأبطل صناعته وأغلق من له حانوت حانوته فيطلبه كبير حرفته الملزم بإحضاره عند معمار باشا فإما أنه يلازم الشغل أو يفتدي نفسه أو يقين بدلاً عنه ويدفع له الأجرة من عنده فترك الكثير صناعته وأغلق حانوته وتكسب بحرفة أخرى فتعطل بذلك احتياجات الناس في التعمير والبناء بحيث أن من أراد أن يبني له كانونا أو مزوداً لدابته تحير في أمره وأقام أياماً في تحصيل البناء وما يحتاجه من الطين والجبر والقصرمل وكان الباشا اشترى ألف حمار وعملوا لها مزابل وأعدوا لنقل أتربة عمائره وشيل القصرمل من مستوقدات الحمامات بالمدينة وبولاق ونودي في المدينة بمنع الناس كافة عن أخذ شيء من القصرمل فكان الذي تلزمه الضرورة لشيء منه إن كان قليلاً أخذه كالسرقة في الليل من المستوقد بأغلى ثمن وإن كان كثيراً لا يأخذه إلا بفرمان بالإذن من كتخدا بك بعد أن كان شيئاً مبتذلاً وليس له قيمة ينقلونه إذا كثر في المستوقدات إلى الكيمان بالأجرة وإن احتاجه الناس في أبنيتهم إما نقلوه على حميرهم أو نقله خدمة المشتوفد بأجرتهم كل فردين بنصف وأقل وأزيد ونحو ذلك كما إذا أضاع إنسان مفتاح خشب لا يجد نجاراً يصنع له مفتاحاً آخر إلا خفية ويطلب ثمنه خمسة عشر نصف فضة وكان من عادة المفتاح نصف فضة إن كان كبيراً أو نصف إن كان صغيراً.
ومنها، أن الذي التزم بعمل البارود قرر على نفسه مائتي كيس واحتكر جميع لوازمه مثل الفحم وحطب الترمس والذرة والكبريت فقرر على كل صنف من ذلك قدراً من الأكياس وأبطل الذين كانوا يعملون في السباخ بالكيمان ويستخرجون منه ملح البارود ثم يؤخذ منهم عبيطاً إلى المعمل فيكررونه حتى يخرج ملحاً أبيض يصلح للعمل وهي صناعة قذرة ممتهنة فأبطلهم منها وبنى أحواضاً بدلاً عن الصناديق وجعلها متسعة وطلاها بالخافقي وعمل ساقية وأجرى الماء منها إلى تلك الأحواض وأوقف العمال لذلك بالأجرة يعملون في السباخ المذكور.
ومنها، شحة الحطب الرومي في هذه السنة وإذا ورد منه شيء حجزه الباشا لاحتياجاته فلا يرى الناس منه شيئاً فكان الحطابة يبيعون بدله خشب الأشجار المقطوعة من القطر المصري وأفضلها السنط فيباع منه الحملة بثلثمائة نصف فضة وأجرة حملها عشرة وتكسيرها عشرة وعز وجود الفحم أيضاً حتى بيعت الأقة بعشرين نصفاً وذلك لانقطاع الجالب إلا ما يأتي قليلاً من ناحية الصعيد مع العسكر يتسببون فيه ويبيعونه بأغلى ثمن كل حصيرة باثني عشر قرشاً وهي دون القنطار وكانت تباع في السابق بستين نصفاً وهي قرش ونصف غير ذلك أمور وأحداثات وابتداعات لا يمكن استقصاؤها ولم يصل إلينا خبرها إذ لا يصل إلينا إلا ما تعلقت به اللوازم والاحتياجات الكلية وقد يستدل بالبعض على الكل، وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر، فمات الشيخ الإمام العلامة والتحرير الفهامة الفقيه الأصولي النحوي شيخ الإسلام والمسلمين الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشافعي الأزهري الشهير بالشرقاوي شيخ الجامع الأزهر ولد ببلدة تسمى الطويلة بشرقية بلبيس بالقرب من القرين في حدود الخمسين بعد المائة وتربى القرين فلما ترعرع وحفظ القرآن قدم إلى الجامع الأزهر وسمع الكثير من الشهايين الملوي والجوهري والحنفي وأخيه يوسف والدومنهوري والبليدي وعطية الأجهوري ومحمد الفارسي وعلي المنسفيسي الشهير بالصعيدي وعمر الطحلاوي وسمع الموطا فقط على علي بن العربي الشهير بالسقاط وبآخره تلقن بالسلوك والطريقة على شيخنا الشيخ محمود الكردي ولازمه وحضر معنا في أذكاره وجمعياته ودرس الدروس بالجامع الأزهر وبمدرسة السنانية بالصنادقية وبرواق الجبرت والطيبرسية وأفتى في مذهبه متميز في الإلقاء والتحرير وله مؤلفات دالة على سعة فضله من ذلك حاشيته على التحرير وشرح نظم يحي العمريطي وشرح العقائد المشرقية والمتن له أيضاً وشرح مختصر في العقائد والفقه والتصوف مشهور في بلاد داغستان وشرح رسالة عبد الفتاح العادلي في العقائد ومختصر الشمائل وشرحه له ورسالة في لا إله إلا الله ورسالة في مسألة أصولية في جمع الجوامع وشرح الحكم والوصايا الكردية في التصوف وشرح ورد سحر للبكري ومختصر المغني في النحو وغير ذلك ولما أراد السلوك في طريق الخلوتية ولقنه الشيخ الحنفي الاسم الأول حصل له وله واختلال في عقله ومكث بالمارستان أياماً ثم شفي ولازم الأقراء والإفادة ثم تلقن من شيخنا الشيخ محمود الكردي وقطع الأسماء عليه وألبسه التاج وواظب على مجالسته وكان في قلة من خشونة العيش وضيق المعيشة فلا يطبخ في داره إلا نادراً وبعض معارفه يواسونه ويرسلون إليه الصفحة من الطعام أو يدعونه ليأكل معهم ولما عرفه الناس واشتهر ذكره فواصله بعض تجار الشوام وغيرهم بالزكوات والهدايا والصلات فراج حاله وتجمل بالملابس وكبر تاجه ولما توفي الشيخ الكردي كان المترجم من جملة خلفائه وضم إليه أشخاصاً من الطلبة والمجاورين الذين يحضرون في درسه يأتون إليه كل ليلة عشاء يذكرون معه ويعمل لهم في بعض الأحيان ثريداً ويذهب بهم إلى بعض البيوت في مياتم الموتى وليالي السبح والجمع المعتادة ومعهم منشدون ومولهون ومن يقرأ الأعشار عند ختم المجلس فيأكلون العشاء ويسهرون حصة من الليل في الذكر والإنشاد والتوله وينادون في إنشادهم بقولهم يا بكري مدد يا حنفي مدد يا شرقاوي مدد ثم يأتون إليهم بالطاري وهو الطعام بعد انقضاء المجلس ثم يعطونهم أيضاً دراهم ثم اشترى له دار بحارة كتامة المسماة بالعينية وساعده في ثمنها بعض من يعاشره من المياسير وترك الذهاب إلى البيوت إلا في النادر واستمر على حالته حتى مات الشيخ أحمد العروسي فتولى بعده مشيخة الجامع الأزهر فزاد في تكبير عمامته وتعظيمها حتى كان يضرب بعظمتها المثل وكانت تعارضت فيه وفي الشيخ مصطفى الصاوي ثم حصل الاتفاق على المترجم وأن الشيخ الصاوي يستمر في وظيفة التدريس بالمدرسة الصلاحية المجاورة لضريح الإمام الشافعي بعد صلاة العصر وهي من وظائف مشيخة الجامع ولما تولاها الشيخ العروسي تعدى على الوظيفة المذكورة الشيخ محمد المصيلحي الضرير وكان يرى في نفسه أنه أحق بالمشيخة من العروسي فلم ينازعه فيها حسماً للشر فلما مات المصيلحي تنزه عنها العروسي وأجلس فيها الصاوي وحضر درسه في أول ابتدائه لكونه من خواص تلامذته فلما مات العروسي وتولى المترجم المشيخة اتفقوا على بقاء الصاوي في الوظيفة ومضى على ذلك أشهر ثم أن المجتمعين على الشرقاوي وسوسوا له وحضروه على أخذ الوظيفة وأن مشيخته لا تتم إلا بها وكان مطواعاً فكلم بذلك الشيخ محمد ابن الجوهري وأيوب بك الدفتردار ووافقاه على ذلك واغتر بهما وذهب بجماعته ومن انضم إليهم وهم كثيرون وقرأ بها درساً فلم يحتمل الصاوي ذلك وتشاور مع ذوي الرأي من رفقائه كالشيخ بدوي الهيتمي وأضرا به فبيتوا أمرهم وذهب الشيخ مصطفى إلى رضوان كتخدا إبراهيم بك الكبير وله به صداقة ومعاملة ومقارضة فسامحه في مبلغ كان عليه له فعند ذلك اهتم رضوان كتخدا المذكور وحضر عند الشرقاوي وتكلم معه وأفحمه ثم اجتمعوا في ثاني يوم ببيت الشرقاوي وحضر الصاوي وعزوته وباقي الجماعة فقال الشرقاوي اشهدوا يا جماعة أن هذه الوظيفة استحقاقي وأنا نزلت عنها إلى الشيخ مصطفى الصاوي فقال له الصاوي ارجع أما الآن فلا ولا جميلة لك الآن في ذلك وباكته بكلام كثير وبإنفاذه لرأي من حوله وغير ذلك وانفض المجلس على منعه من الوظيفة واستمرار الصاوي فيها إلى أن مات فعادت إلى المترجم عند ذلك من غير منازع فواظب الإقراء فيها مدة وطالب سدنة الضريح بمعلومها فماطلوه فتشاجر معهم وسبهم فشكوه للمعاضدين لهم وهم أهل المكايد من الفقهاء وغيرهم وتعصبوا عليه وأنهوا إلى الباشا وضموا إلى ذلك أشياء حتى أغروا عليه صدره واتفقوا على عزله من المشيخة ثم انحط الأمر على أن يلزم داره ولا يخرج منها ولا يتداخل في شيء من الأشياء فكان ذلك أياماً ثم عفا عنه الباشا بشفاعة القاضي فركب وقابله ولكن لم يعد إلى القراءة في الوظيفة بل استناب فيها بعض الفقهاء وهو الشيخ محمد الشبراويني ولما حضرت الفرنساوية إلى مصر في سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف ورتبوا ديواناً لإجراء الأحكام بين المسلمين جعلوا المترجم رئيس الديوان وانتفع في أيامهم بما يتحصل إليه من المعلوم المرتب له عن ذلك وقضايا وشفاعات لبعض الأجناد المصرية وجعالات على ذلك واستيلاء على تركات ودائع خرجت أربابها في حادثة الفرنساوية وهلكوا واتسعت عليه الدنيا وزاد طمعه فيها واشترى دار ابن بيرة بظاهر الأزهر وهي دار واسعة من مساكن الأمراء الأقدمين وزوجته بنت الشيخ علي الزغفراني هي التي تدبر أمره وتحرز كل ما يأتيه ويجمعه ولا يروح ولا يغدو إلا عن أمرها ومشورتها وهي أم سيدي علي الموجود الآن وكانت قبل زواجه بها في قلة من العيش فلما كثرت عليه الدنيا اشترت الأملاك والعقار والحمامات والحوانيت بما يغل إيراده مبلغاً في كل شهر له صورة وعمل مهماً لزواج ابنه المذكور في أيام محمد باشا خسرو سنة سبع عشرة ومائتين وألف ودعا إليه الباشا وأعيان الوقت فاجتمع إليه شيء كثير من الهدايا ولما حضر إليه الباشا أنعم على ابنه بأربعة أكياس عنها ثمانون ألف درهم وذلك خلاف البقاشيش واتفق للمترجم في أيام الأمراء المصرية أن طائفة المجاورين بالأزهر من الشرقاويين يقطنون بمدرسة الطيبرسية بباب الأزهر وعمل لهم المترجم خزائن برواق معمر فوقع بينهم وبين المجاورين بها مشاجرة فضربوا نقيب الرواق فتعصب لهم الشيخ إبراهيم السجيني شيخ الرواق على الشرقاويين ومنعوهم من الطيبرسية وخزائنها وقهروا المترجم وطائفته فتوسط بامرأة عمياء فقيهة تحضر عنده في درسه إلى عديلة هانم ابنة إبراهيم بك فكلمت زوجها إبراهيم بك المعروف بالوالي بأن يبني له مكاناً خاصاً بطائفته فأجابه إلى ذلك وأخذ سكناً أمام الجامع المجاور لمدرسة الجوهرية من غير ثمن وأضاف إليه قطعة أخرى وأنشأ ذلك رواقاً خاصاً بهم ونقل إليه الأحجار والعامود والرخام الذي بوسطه من جامع الملك الظاهر بيبرس خارج الحسينية وهو تحت نظر الشيخ إبراهيم السجيني ليكون ذلك نكاية له نظير تعصبه عليه وعمل به قوائم وخزائن واشترى له غلال من جريات السون وأضافها إلى أخباز الجامع وأدخلها ففي دفتره يستلمها خباز الجامع ويصرفها خبز قرصة لأهل ذلك الرواق في كل يوم ووزعها على الأنفار الذين اختارهم من أهل بلاده ومما اتفق للمترجم أن بخارج باب البرقية خانكاه أنشأتها خوند طغاي الناصرية بالصحراء على يمنة السالك إلى وهدة الجبانة المعروفة الآن بالبستان وكان الناظر عليها شخص من شهود المحكمة يقال له ابن الشاهيني فلما مات تقرر في نظيرها المترجم واستولى على جهات إيرادها فلما ولج الفرنساوية أراضي مصر وأحدثوا القلاع فوق التلول والأماكن المستعلية حوالي المدينة هدموا منارة هذه الخانكاه وبعض الحوائط الشمالية وتركوها على ذلك فلما ارتحلوا عن أرض مصر بقيت على وضعها في التخرب وكانت ساقيتها تجاه بابها في علوة يصعد إليها بمزلقان ويجري الماء منها إلى الخانكاه على حائط مبني وبه قنطرة يمر من تحتها المارون وتحت الساقية حوض لسقي الدواب وقد أدركنا ذلك وشاهدنا دوران الثور في الساقية ثم أن المترجم أبطل تلك الساقية وبنى مكانها زاوية وعمل لنفسه بها مدفناً وعقد عليه قبة وجعل تحتها مقصورة بداخلها تابوت عال مربع وعلى أركانه عساكر فضة وبنى بجانبها قصراً ملاصقاً لها يحتوي على أروقة ومساكن ومطبخ وكلار وذهبت الساقية في ضمن ذلك وجعلها بئر وعليه خرزة يملؤن منها بالدلو ونسيت تلك الساقية وانطمست معالمها وكأنها لم تكن وقد ذكر هذه الخانكاه العلامة المقريزي في خططه عند ذكر الخوانك لا بأس بإيراد ما نصه للمناسبة فقال خانكاه أم أنوك هذه الخانكا خارج باب البرقية بالصحراء أنشأتها الخاتون طغاي تجاه تربة الأمير طاشتمر الساقي فجاءت من أجل المباني وجعلت بها صوفية وقراء ووقفت عليها الأوقاف الكثيرة وقررت لكل جارية من جواريها مرتباً يقوم بها ثم ترجمها بقوله طغاي الخوندة الكبرى زوج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وأم ابنه الأمير أنوك كانت من جملة أمائه فأعتقها وتزوجها ويقال أنها أخت الأمير آفبغا عبد الواحد وكانت بديعة الحسن باهرة الجمال من السعادة ما لم يره غيرها من نساء ملوك الترك بمصر وتنعمت في ملاذ ما وصل سواها لمثلها ولم يدم السلطان على محبة امرأة سواها وصارت خوندة بعد ابنه توكاي أكبر نسائه حتى من ابنة الأمير تنكز وحج بها القاضي كريم الدين الكبير واحتفل بأمرها وحمل لها البقول في محاير طين على ظهور الجمال وأخذ لها الأبقار الحلابة فسارت معها طول الطريق لأجل اللبن الطري والجبن وكان يقلي لها الجبن في الغداء والعشاء وناهيك بمن وصل إلى مداومة البقل والجبن واللبن في كل يوم بطريق الحج فما عساه يكون بعد ذلك وكان القاضي كريم الدين وأمير مجلس وعدة من الأمراء يترجلون عند النزول ويسيرون بين يدي محفتها ويقبلون الأرض لها كما يفعلون بالسلطان ثم حج بها الأمير بشتاك في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وكان الأمير تنكز إذا جهز من دمشق تقدمة للسلطان لا بلد أن يكون لخوند طغاي منها جزء وافر فلما مات السلطان الملك الناصر استمرت عظمتها من بعده إلى أن ماتت في شهر شوال سنة تسع وأربعين وسبعمائة أيام الوباء عن ألف جارية وثمانين خصياً وأموال كثيرة جداً وكانت عفيفة طاهرة كثيرة الخير والصدقات والمعروف جهزت سائر جواريها وجعلت على قبر ابنها بقبة المدرسة الناصرية بين القصرين قراء ووقفت على ذلك وقفا وجعلت من جملته خبزاً يفرق على الفقراء ودفنت بهذه الخانكاه وهي من أعمر الأماكن إلى يومنا هذا انتهى كلامه. ستولى على جهات إيرادها فلما ولج الفرنساوية أراضي مصر وأحدثوا القلاع فوق التلول والأماكن المستعلية حوالي المدينة هدموا منارة هذه الخانكاه وبعض الحوائط الشمالية وتركوها على ذلك فلما ارتحلوا عن أرض مصر بقيت على وضعها في التخرب وكانت ساقيتها تجاه بابها في علوة يصعد إليها بمزلقان ويجري الماء منها إلى الخانكاه على حائط مبني وبه قنطرة يمر من تحتها المارون وتحت الساقية حوض لسقي الدواب وقد أدركنا ذلك وشاهدنا دوران الثور في الساقية ثم أن المترجم أبطل تلك الساقية وبنى مكانها زاوية وعمل لنفسه بها مدفناً وعقد عليه قبة وجعل تحتها مقصورة بداخلها تابوت عال مربع وعلى أركانه عساكر فضة وبنى بجانبها قصراً ملاصقاً لها يحتوي على أروقة ومساكن ومطبخ وكلار وذهبت الساقية في ضمن ذلك وجعلها بئر وعليه خرزة يملؤن منها بالدلو ونسيت تلك الساقية وانطمست معالمها وكأنها لم تكن وقد ذكر هذه الخانكاه العلامة المقريزي في خططه عند ذكر الخوانك لا بأس بإيراد ما نصه للمناسبة فقال خانكاه أم أنوك هذه الخانكا خارج باب البرقية بالصحراء أنشأتها الخاتون طغاي تجاه تربة الأمير طاشتمر الساقي فجاءت من أجل المباني وجعلت بها صوفية وقراء ووقفت عليها الأوقاف الكثيرة وقررت لكل جارية من جواريها مرتباً يقوم بها ثم ترجمها بقوله طغاي الخوندة الكبرى زوج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وأم ابنه الأمير أنوك كانت من جملة أمائه فأعتقها وتزوجها ويقال أنها أخت الأمير آفبغا عبد الواحد وكانت بديعة الحسن باهرة الجمال من السعادة ما لم يره غيرها من نساء ملوك الترك بمصر وتنعمت في ملاذ ما وصل سواها لمثلها ولم يدم السلطان على محبة امرأة سواها وصارت خوندة بعد ابنه توكاي أكبر نسائه حتى من ابنة الأمير تنكز وحج بها القاضي كريم الدين الكبير واحتفل بأمرها وحمل لها البقول في محاير طين على ظهور الجمال وأخذ لها الأبقار الحلابة فسارت معها طول الطريق لأجل اللبن الطري والجبن وكان يقلي لها الجبن في الغداء والعشاء وناهيك بمن وصل إلى مداومة البقل والجبن واللبن في كل يوم بطريق الحج فما عساه يكون بعد ذلك وكان القاضي كريم الدين وأمير مجلس وعدة من الأمراء يترجلون عند النزول ويسيرون بين يدي محفتها ويقبلون الأرض لها كما يفعلون بالسلطان ثم حج بها الأمير بشتاك في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وكان الأمير تنكز إذا جهز من دمشق تقدمة للسلطان لا بلد أن يكون لخوند طغاي منها جزء وافر فلما مات السلطان الملك الناصر استمرت عظمتها من بعده إلى أن ماتت في شهر شوال سنة تسع وأربعين وسبعمائة أيام الوباء عن ألف جارية وثمانين خصياً وأموال كثيرة جداً وكانت عفيفة طاهرة كثيرة الخير والصدقات والمعروف جهزت سائر جواريها وجعلت على قبر ابنها بقبة المدرسة الناصرية بين القصرين قراء ووقفت على ذلك وقفا وجعلت من جملته خبزاً يفرق على الفقراء ودفنت بهذه الخانكاه وهي من أعمر الأماكن إلى يومنا هذا انتهى كلامه.
يقول، الحقير أني دخلت هذه الخانكاه في أواخر القرن الماضي فوجدت بها روحانية لطيفة وبها مساكن وسكان قاطنون بها وفيهم أصحاب الوظائف مثل المؤذن والوقاد والكناس والملاء ودخلت إلى مدفن الوقفة وعلى قبرها تركيبة مكن الرخام الأبيض وعند رأسها ختمة شريفة كبيرة على كرسي بخط جليل وهي مذهبة وعليها اسم الواقفة رحمها الله تعالى فلو أن الشيخ المترجم عمر هذه الخانكاه بدل هذا الذي ارتكبه من تخريبها لكان له بذلك منقبه وذكر حسن في حياته وبعد مماته وبالله التوفيق وللمترجم طبقات جمعها في تراجم الفقهاء الشافعية المتقدمين والمتأخرين من أهل عصره ومن قبلهم من أهل القرن الثاني عشر نقل تراجم المتقدمين من طبقات السبكي والأسنوي وأما التاخرون فنقلهم من تاريخنا هذا بالحرف الواحد وأظن أن ذلك آخر تأليفاته وعمل تاريخنا قبله مختصراً في نحو أربعة كراريس عند قدوم الوزير يوسف باشا إلى مصر وخروج الفرنساوية منها وأهداه عدد فيه ملوك مصر وذكر في آخره خروج الفرنسيس ودخول العثمانية في نحو ورقتين وهو في غاية البرود وغلط فيه غلطات منها أنه ذكر الأشرف شعبان ابن الأمير حسين بن الناصر محمد بن قلاوون فجعله ابن السلطان حسن ونحو ذلك ولم يزل المترجم حتى تعلل ومات في يوم الخميس ثاني شهر شوال من السنة وصلى عليه بالأزهر في جمع كثير ودفن بمدفنه الذي بناه لنفسه كما ذكر ووضعوا على تابوته المذكور عمامة كبيرة أكبر من طبيزيته التي كان يلبسها في حياته بكثير وعموماً بشاش أخضر وعصبوها بشال كشميري أحمر ووقف شخص عند باب مقصورته وبيده مقرعة يدعو الناس لزيارته ويأخذ منهم دراهم، ثم أن زوجته وابنها ومن يلوذ بهم ابتدعوا له مولداً وعيداً في أيام مولد العفيفي وكتبوا بذلك فرماناً من الباشا ونادى به تابع الشرطة بأسواق المدينة على الناس بالاجتماع والحضور لذلك المولد وكتبوا أوراقاً ورسائل للأعيان وأصحاب المظاهر وغيرهم بالحضور وذبحوا ذبائح وأحضروا طباخين وفراشين مدوا أسمطة بها أنواع الأطعمة والحلاوات والمحمرات والخشافات لمن حضر من الفقهاء والمشايخ والأعيان وأرباب الأشاير والبدع ونصبو قبالة تلك القبة صواري علقوا بها قناديل وبيارق وشراريب حمراً وصفراً يلوحها الريح واجتمع حول ذلك من غوغاء الناس وعملوا قهاوي وبياعين الحلو والمخللات والترمس المملح والفول المقلي ودهسوا ما بتلك البقعة من قبور الأموات وأوقدوا بها النيران وصبوا عليها القاذورات مع ما يلحقهم من البول والغائط، وأما ضجة الأوباش والأولاد وصراخهم وفرقعتهم بالبارود وصياحهم وضجيجهم فقد شاهدنا به ما كنا نسمعه من عفاريت الترب وضرب المثل بهم فهم أقبح منهم فإن العفاريت الحقيقية لم نر لهم أفعالاً مثل هذه.
ولما مات الشيخ المترجم ومضى على موته ثلاثة أيام، اجتمع المشايخ في يوم الأحد خامسه وطلعوا إلى القلعة ودخلوا إلى الباشا وذكروا له موت المترجم ويستأذنونه فيمن يجعلونه شيخاً على الأزهر فقال لهم الباشا اعملوا رأيكم واختاروا شخصاً يكون خالياً من الأغراض وأنا أقلده ذلك فقاموا من مجلسه ونزلوا إلى بيوتهم واختلفت آراؤهم فالبعض اختار الشيخ المهدي والبعض ذكر الشيخ محمد الشنواني، وأما الشيخ محمد الأمير فإنه امتنع من ذلك، وكذلك ابن الشيخ العروسي والشيخ الشنواني المذكور منعزل عنهم وليس له درس بالأزهر ويقرأ دروسه بجامع الفاكهاني الذي في العقادين وبيده وظائف خدم الجامع وعند فراغه من الدروس يغير ثيابه ويكنس المسجد ويغسل القناديل ويعمرها بالزيت والفتائل حتى يكنس المراحيض، فلما بلغه أنهم ذكروه تغيب، ثم أن الباشا أمر القاضي وهو بهجة أفندي بأن يجمع المشايخ عنده ويتفقوا على شخص يجتمع رأيهم عليه بالشرط المذكور فأرسل إليهم القاضي وجمعهم، وذلك في يوم الثلاثاء سابعه وحضر فقهاء الشافعية مثل القويسني والفضالي وكثير من المجاورين والشوام والمغاربة فسأل القاضي هل بقي أحد فقالوا، لم يكن أحد غائباً عن الحضور إلا ابن العروسي والهيثمي والشنواني فأرسلوا إليهم فحضر العروسي والهيثمي فقال وأين الشنواني فلا بد من حضوره فأرسلوا رسولاً فغاب ورجع وبيده ورقة ويقول الرسول أنه له ثلاثة أيام غائباً عن داره وترك هذه الورقة عند أهله وقال إن طلبوني أعطوهم هذه الورقة فأخذها القاضي وقرأها جهاراً يقول فيها بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم لحضرة شيخ الإسلام أننا نزلنا عن المشيخة للشيخ بدوي الهيثمي إلى آخر ما قال فعندما سمع الحاضرون ذلك القول قاموا قومة وأكثرهم طائفة الشوام وقال بعضهم هو لم يثبت له مشيخة حتى أنه نزل عنها لغيره وقال كبارهم من المدرسين لا يكون شيخاً إلا من يدرس العلوم ويفيد الطلبة وزادوا في اللغط فقال القاضي ومن الذي ترضونه فقالوا نرضى الشيخ المهدي وكذلك قال البقية وقاموا وصافحوه وقرأوا الفاتحة وكتب القاضي إعلاماً إلى الباشا بما حصل وانفض الجمع وركب الشيخ المهدي إلى بيته في كبكبة وحوله وخلفه المشايخ وطوائف المجاورين وشربوا الشربات وأقبلت عليه الناس للتهنئة وانتظر جواب الإعلام بقية ذلك اليوم، فلم يأت الجواب ومضى اليوم الثاني والمدبرون يدبرون شغلهم وأحضروا الشيخ الشنواني من المكان الذي كان متغيباً فيه بمصر القديمة وتمموا شغلهم وأحضروا السيد منصور اليافاوي المنفصل عن مشيخة الشوام ليلاً ليعيدوه إلى مشيخة الشوام ويمنعوا الشيخ قاسماً المتولي فعاله ولطائفته الذين تطاولوا في مجلس القاضي بالكلام وجمعوا بقية المشايخ آخر الليل وركبوا في الصباح إلى القلعة فقابلوا الباشا فخلع على الشيخ محمد الشنواني فروة سمور وجعله شيخاً على الأزهر، وكذلك على السيد منصور اليافاوي ليكون شيخاً على رواق الشوام، كما كان في السابق، ثم نزلوا وركبوا وصحبتهم آغات الينكجرية بهيئة الموكب وعلى رأسه المجوزة الكبيرة وأمامه الملازمون بالبراقع والريش على رؤوسهم وما زالوا سائرين حتى دخلوا حارة خوشقدم فنزلوا بدار ابن الزليجي لأن دار ذات الشيخ الشنواني صغيرة وضيقة لا تسع ذلك الجمع والذي أنزله في ذلك المنزل السيد محمد المحروقي وقام له بجميع الاحتياجات وأرسل من الليل الطباخين والفراشين والأغنام والأرز والحطب والسمن والعسل والسكر والقهوة وأوقف عبيده وخدمه لخدمة القادمين للسلام والتهنئة ومناولة القهوة والشربات والبخور وماء الورد وازدحمت الناس عليه وأتوا أفواجاً إليه وكان ذلك يوم الثلاثاء رابع عشره ووصل الخبر إلى الشيخ المهدي ومن معه وحصل لهم كسوف وبطلت مشيخته، ولما كان يوم الجمعة حضر الشيخ الجديد إلى الأزهر وصلى الجمعة وحضر باقي المشايخ وعملوا الختم للشيخ الشرقاوي وحصل ازدحام عظيم خصوصاً للتفرج على الشيخ الجديد، وكأنه لم يكن طول دهره بينهم ولا يلتفتون إليه وبعد فراغ الختم أنشد المنشد قصيدة يرثي بها المتوفي من نظم الشيخ عبد الله العدوي المعروف بالقاضي وانفض الجميع.
ومات الأستاذ المكرم بقية السلف الصالحين ونتيجة الخلف المعتقد الشيخ محمد المكني أبا السعود بن الشيخ محمد جلال بن الشيخ محمد أفندي المكني بأبي المكارم بن السيد عبد المنعم بن السيد محمد المكني بأبي السرور صاحب الترجمة بن السيد القطب الملقب بأبي السرور البكري الصديقي العمري من جهة الأم تولى خلافة سجادتهم في سنة سبع عشرة ومائتين وألف عندما عزل ابن عمه السيد خليل البكري، ولم تكن الخلافة في فرعهم بل كانت في أولاد الشيخ أحمد بن عبد المنعم وآخرهم السيد خليل المذكور، فلما حضرت العثمانية إلى مصر واستقر في ولايتها محمد باشا خسروا سعى في السيد خليل الكارهون له وأنهوا إليه فيه ورموه بالقبائح ومنها تداخله في الفرنسيس وامتزاجه بهم وعزلوه من نقابة الأشراف وردت للسيد عمر مكرم، ولم يكتفوا بذلك وذكروا أنه لا يصلح لخلافة البكرية فقال الباشا وهل موجود في أولادهم خلافة قالوا نعم وذكروا المترجم فيمن ذكروه وأنه قد طعن في السن وفقير من المال فقال الباشا الفقر لا ينفي النسب وأمر له بفرس وسرج وعباءة كعادة مركوبهم فأحضروه وألبسوه التاج والفرجية وخلع عليه الباشا فروة سمور وأنعم عليه بخمسة أكياس وأن يأخذ له فائظاً في بعض الإقطاعات ويعفى من الحلوان وسكن بدار جهة باب الخرق وراج أمره واشتهر ذكره من حينئذ وسار سيراً حسناً مقروناً بالكمال جارياً على نسق نظامهم بحسب الحال ويتحاكم لديه خلفاء الطرائق الصورية وأصحاب الأشاير البدعية كالأحمدية والرفاعية والبرهامية والقادرية فيفضل قوانينهم العادية وينتقل في أوائل شهر ربيع الأول إلى داره بالأزبكية بدرب عبد الحق فيعمل هناك وليمة المولد النبوي على العادة وكذلك مولد المعراج في شهر رجب بزاوية الدشطوطي خارج باب العدوي، ولم يزل على حالته وطريقته مع انكسار النفس إلى أن ضعفت قواه وتعلل ولازم الفراش، فعند ذلك طلب الشيخ الشنواني وباقي المشايخ وعرفهم أن مرضه الذي هو به مرض الموت لأنه بلغ التسعين وزيادة وأنه عهد بالخلافة على سجادتهم لولده السيد محمد لأنه بالغ رشيد والتمس منهم بأن يركبوا معه من الغد ويطلعوا إلى القلعة ويقابلوا به الباشا فأجابوه إلى ذلك وركبوا من الغد صحبته إلى القلعة فخلع عليه الباشا فروة سمور، ونزل إلى داره بالأزبكية بدرب عبد الحق وتوفي المترجم في أواخر شهر شوال من السنة، وحضروا بجنازته إلى الأزهر فصلوا عليه وذهبوا به إلى القرافة ودفن بمشهد أسلافهم رحمه الله تعالى.
ومات الأجل المكرم المهذب في نفسه النادرة في أبناء جنسه محمد أفندي الودنلي الذي عرف بناظر المهمات ويعرف أيضاً بطبل أي الأعرج لأنه كان به عرج قدم إلى مصر في أيام قدوم الوزير يوسف باشا وولاه محمد باشا خسرو كشوفية أسيوط، ثم رجع إلى مصر في ولاية محمد علي باشا فجعله ناظراً على مهمات الدولة وسكن ببيت سليمان أفندي ميسواً بعطفة أبي كلبة بناحية الدرب الأحمر فتقيد بعمل الخيام والسروج واليرقات ولوازم الحروب فضاقت عليه الدار فاشترى بيت ابن الدالي باللبودية بالقرب من قنطرة عمر شاه وهي دار واسعة عظيمة متخربة هي وما حولها من الدور والرباع والحوانيت فعمرها وسكن بها ورتب بها ورشات أرباب الأشغال والصنائع والمهمات المتعلقة بالدولة كسبك المدافع والجلل والقنابر والمكاحل والعربات وغير ذلك من الخيام والسروج ومصاريف طرائف العساكر الطبجية والعربجية والرماة وعمر ما حول تلك الدار من الرباع والحونيت والمسجد الذي بجواره ومكتباً لإقراء الأطفال ورتب تدريساً في المسجد المذكور بعد العصر وقرر فيه السيد أحمد الطحطاوي الحنفي ومعه عشرة من الطلبة ورتب لهم ألف عثماني تصرف لهم من الروزنامة وللأطفال وكسوتهم خلاف ذلك ويشتري في عيد الأضحى جواميس وكباشاً يذبح منها ويفرق على الفقراء والموظفين ويرسل إلى أصحابه عدة أكباش في عيد الأضحية إلى بيوتهم الكبش والكبشين على قدر مقاديرهم ويرسل في كل ليلة من ليالي رمضان عدة قصاع مملوءة بالثريد واللحم إلى الفقراء بالجامع الأزهر واتفق أن الباشا قصد تعمير المجراة والسواقي التي تنقل الماء من النيل إلى القلعة، وكانت قد تهدمت وتخربت وتلاشت وبطل عملها مدة سنين فأحضروا المعمارجية فهولوا عليه أمرها وأخبروه أنها تحتاج خمسمائة كيس تنفق في عمارتها فعرض ذلك على المترجم فقال له: أنا أعمرها بمائة كيس قال كيف تقول قال بل بثمانين كيساً والتزم بذلك، ثم شرع بعمارتها حتى أتمها على ما هي عليه الآن وأهدى إليه رجال دولتهم عدة أنوار معونة له فعمر أيضاً سواقيها وأدارها وجرى فيها الماء إلى القلعة ونواحيها وانتفع بها أهل تلك الجهات ورخص الماء وكثر في تلك الأخطاط وكانوا قاسوا شدة من عدم الماء عدة سنين ومما عد من مناقبه أن القلقات المقيدين بالمراكز وأبواب المدينة كانوا يأخذون من الواردين والداخلين والخارجين والمسافرين من الفلاحين وغيرهم ومهم أشياء أو أحمال ولو حطباً أو برسيماً أو تبناً أو سرجينا دراهم على كل شيء ولو امرأة فقيرة معها أو على رأسها مقطف من رجيع البهائم تبيعه في الشارع وتقتات بثمنه فيحجزونها ولا يدعونها تمر حتى تدفع لهم نصف فضة، ثم يأخذون أيضاً من ذلك الشيء ويأخذون على كل حمل حمار أو بغل أو جمل نصف فضة وإذا اشترى شخص من ساحل بولاق أو مصر القديمة أردب غلة أو حملة حطب لعياله أخذ منه المتقيدون عند قنطرة الليمون فإذا خلص منهم استقبله الكائنون بالباب الحديد وهكذا سائر الطرق التي يدخل منها المارة إلى المدينة ويخرجون مثل باب النصر وباب الفتوح وباب الشعرية وباب العدوي وطرق الأزبكية وباب القرافة والبرقية وطرق مصر القديمة، فسعى المترجم بأبطال ذلك وتكلم مع الباشا وعرفه تضرر الناس وخصوصاً الفقراء وهؤلاء المتقيدون لهم علائف يقبضونها من الباشا كغيرهم وهذا قدر زائد مرخص له في إبطال هذا الأمر وكتب له بيور لدي بمنع هؤلاء المذكورين عن أخذ شيء من الناس جملة كافية وقيد بكل مركز شخصاً من أتباعه لمراقبتهم وأشاع ذلك في الناس فانكفوا وامتنعوا عن أخذ شيء من عامة الناس وكانوا يجمعون من ذلك مقادير من الفضة العددية يتقاسمونها آخر النهار، وذلك خلاف ما يأخذونه من الأشياء المحمولة كالجبن والزبد والخيار والقثاء وأنواع البطيخ والفاكهة والبرسيم والأحطاب والخضارات وغير ذلك ومن مناقبه أيضاً أن الجاويشية والقواسة الأتراك المختصين بخدمة الباشا كتخدا، كان من عوائدهم القبيحة أنهم في كل يوم جمعة يلبسون أحسن ملابسهم وينتشرون بالمدينة ويطوفون على بيوت الأعيان وأرباب المظاهر وأصحاب المناصب ويأخذون منهم البقاشيش ويسمونها الجمعية فما هو إلا أن يصطبح أحد من ذكر ويجلس مجلسه إلا واثنان أو ثلاثة عابرون عليه من غير استئذان فيقفون قبالته وبأيديهم العصي المفضضة فيعطيهم القرشين أو الثلاثة بحسب منصبه ومقامه فإذا ذهبوا وانصرفوا حضر إليه خلافهم وهكذا ولا يرون في ذلك ثقلاً ولا رذالة بل يرون أن ذلك من اللازمات الواجبة فلا يكفي أحد المقصودين الخمسون قرشاً أو أقل أو أكثر في ذلك اليوم تذهب سبهللاً، فكان منهم من ينقطع في حريمه ذلك اليوم أو يتوارى ويغيب في منزله فإذا صادفوه مرة أخرى ذاكروه فيما فاتهم في السابق، فإما سامحوه وامتنوا عليه بتركها أو طالبوه بها إن لم يكن ممن يخشوه فسعى أيضاً المترجم مع الباشا على منعهم من ذلك. ذا ذهبوا وانصرفوا حضر إليه خلافهم وهكذا ولا يرون في ذلك ثقلاً ولا رذالة بل يرون أن ذلك من اللازمات الواجبة فلا يكفي أحد المقصودين الخمسون قرشاً أو أقل أو أكثر في ذلك اليوم تذهب سبهللاً، فكان منهم من ينقطع في حريمه ذلك اليوم أو يتوارى ويغيب في منزله فإذا صادفوه مرة أخرى ذاكروه فيما فاتهم في السابق، فإما سامحوه وامتنوا عليه بتركها أو طالبوه بها إن لم يكن ممن يخشوه فسعى أيضاً المترجم مع الباشا على منعهم من ذلك.
ومن مساويه أنه أول من فتح باب الزيادة في متحصل الضربخانة حتى تنبه الباشا من ذلك الوقت لأهل الضربخانة وأوقع بهم ما تقدم ذكره ومنها أحداث المكس على اللبان والحناء والصمغ على ما قيل ومن ذا الذي نرضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه وبالجملة فمن رأس العين يأتي الكدر، كما قال الليث بن سعد لما سأله الرشيد وقال له يا أبا الحرث ما صلاح أمر زراعتها وجدبها وخصبها فبالنيل، وأما صلاح أحكامها فمن رأس العين يأتي الكدر، فقال له صدقت ذكر ذلك الحافظ بن حجر في المرحمة الغيثية في الترجمة الليثية وعلى كل فكان المترجم أحسن من رأينا في هذه الدولة، وكان قريباً من الخير وفعله مواظباً على الصلوات الخمس في أوقاتها ملازماً على الاشتغال ومطالعة الكتب والممارسة في دقائق الفنون، واقتنى كتباً كثيرة في سائر الفنون واستنباط الصنائع حتى أنه صنع الجوخ الملون الذي كان يعمل ببلاد الإفرنج ويجلب إلى الآفاق ويلبسه الناس للتجمل، وكان قل وجوده بمصر وغلا ثمنه فعمل عدة أنوال ومناسج غريبة الواضع وأحضر أشخاصاً من النساجين فنسجوا الصوف بعد غزله مدات حددها لهم في الطول والعرض، ثم بتسلمه رجال أعدهم لتخميره وتلبيده بالقلي والصابون منشوراً ومطوياً بكيفيات في أوقات وأيام بمباشرته لهم في العمل وإشارته، ثم يضعونه مطوياً في أحواض من خشب ثخين مزفت تمتلئ بالماء من ساقية صنعها لخصوص ذلك يصب منها الماء إلى تلك الأحواض تديرها الأثوار، وعلى تلك الأحواض مدقات شبيهة بمدقات الأرز تتحرك في صعودها وهبوطها من ترس خاص يدور بدوران الساقية، وما يفيض من ماء الأحواض يجري إلى بستان زرعه حول ذلك فيسقي ما به من الأشجار والمزارع، فلا يذهب الماء هدراً، ثم يخرجونه بعد ذلك ويبردخونه ويصبغونه بأنواع الأصباغ ويضعونه في مكبس كبير يقال له التخت صنعه لذلك، وعند ذلك يتم عمله فكان الناس يذهبون للتفرج على ذلك لغرابته عندهم، ثم حضر إليه شخص فرنساوي وأشار عليه بإشارات في تغيير المدقات وأفسد العمل واشتغل هو بكثرة المهمات الصعبة فتكاسل عن إعادتها ثانياً وبطل ذلك، وكان مع كثرة أشغاله ومصاريفه ليس له كاتباً بل يكتب ويحسب لنفسه وبين يديه عدة دفاتر لكل شيء دفتر مخصوص ولا يشغله شيء عن شيء، ولما اتسعت دائرته وكثرت حاشيته واجتمعت فيه عدة مناصب مضافة لنظر المهمات مثل معمل البارود وقاعة الفضة ومدابغ الجلود، وغير ذلك فكان كتخدا بك يحقد عليه في الباطن لأمور بينهما حتى قيل أن نفسه طمحت في الكتخدائية، فكان يتصدر في الأمور والقضايا ويرافع ويدافع ويهزل مع الباشا ويضاحكه ويرادده ويدخل عليه من غير استئذان، فلم يزل الكتخدا يلقي فيه الدسائس ويعمل معدل الأشغال التي تحت نظره ويعرف الباشا بما يتوفر من ذلك حتى نزعه من نظارة جميع المهمات وقلدها صالح كتخدا الرزاز.
ومما نقمه عليه أن الكتخدا حضر لزيارة المشهد الحسيني في عصرية يوم رمضان، ثم ركب متوجهاً إلى داره قبيل الغروب فصادف في طريقه عدة قصاع كبار مغطاة تحملها الرجال فسأل عنها فعرفوه أن المترجم يرسلها في كل ليلة من ليالي رمضان إلى فقراء الجامع الأزهر وبها الثريد واللحم فامتعض من ذلك وعرف الباشا أن يؤلف الناس ويتوادد إليهم بأموالك، ونحو ذلك واستمر المترجم بطالاً نحو السنتين ولم يتضعضع، ولم يظهر عليه تغير ونظامه ومطبخه على حاله وطعامه مبذول وراتبه جار وفي تلك المدة اشتغل بمطالعة الكتب والممارسة والمدارسة وعانى الحسابيات وصناعة التقويم حتى مهر في ذلك وعمل الدستور السنوي وما يشتمل عليه من تقويم الكواكب السيارة وتداخل التواريخ والأهلة والاجتماعات والاستقبالات وطوالع التحاويل والنصبات ويصنع بيده أيضاً الصنائع الفائقة مثل الظروف التي تأتي من بلاد الهند والإفرنج والروم ويضع فيها الكتبة محابرهم وأقلامهم فيصنعها أولاً من الخشب الرقيق والقرطاس المقوم المتلاصق ويصبغها وينقشها بأنواع الليق ويعيد على النقوشات بالسندروس المحلول ويضعها في صندوق من الزجاج صنعه لخصوص تلك الأشياء والقبورات وجفاف دهانها بحرارة الشمس المحجوب بالزجاج عن الهواء والغبار وعند تمامها تكون في غاية الحسن والظرافة والبهجة بحيث لا يشك من يراها بأنها من صناعة الهند أو الإفرنج المتقنين الصناعة وكان كلما سمع بشخص ذي معرفة لصناعة البضائع أو المعارف اجتهد في تحصيلها وتلقيها عنه بأي وجه كان ولو ببذل الرغائب وأعد بمنزله أماكن لأشخاص من أرباب المعارف ينزلهم فيها ويجري عليهم النفقات والكساوي حتى يجتني ثمار معارفهم وصنائعهم ويجتمع عنده في كل ليلة جمعة جماعة من القراء التي مساكنهم قريبة من داره فيذكر الله معهم حصة من الليل، ثم يفرق فيهم دراهم ولما طال به الإهمال وفتور الأحوال والباشا قليل الإقامة بمصر وأكثر أيامه غائب عنها فحسن بباله الرحلة من مصر إلى الديار الرومية ويذهب إلى بلاده فاستأذن الباشا عند وداعه وهو متوجه إلى ناحية قبلي فأذن له وأخذ في أسباب السفر فأرسل الكتخدا إلى الباشا ودس إليه كلاماً فأرسل بمنعه ويرتب له خروجاً لمطبخه فتعوق عن السفر على غير خاطره وفي أوائل السنة حضرت إليه والدته وابنته وزوجها فأنزلهم في دار تجاه داره وأجرى عليهم ما يحتاجون إليه من النفقة فاتفق أن صهره المذكور حلف يميناً بالطلاق الثلاث وحنث فيه ففرق بينه وبين ابنته وطرده فشكاه إلى كتخدا بك فكلمه في شأنه، فلم يقبل وقال لا يجوز أن أحلل المحرم لأجلك واستمر صهره يتردد على الكتخدا ويلقي ما يلقيه في حقه من النميمة ويذكر له عنه في حقه ما يزيده غيظاً وكراهة ويقول له أنه يجمع أناساً في كل ليلة جمعة يقرؤون ويدعون عليه وعلى مخدومك وذكر له أنه يقول لكم أن قصدت السفر إلى بلده وإنما قصده السفر إلى إسلامبول ليجتمع على مخدومه الأول لكونه تولى قبودان باشا ورياسة الدونانمة ويقول عندما أكون بدار السلطنة أفعل وأفعل وأخبرهم بحقيقة هؤلاء وأفاعيلهم وانقض عليهم أمرهم وذكر له أيضاً أنه استخرج من أحكام النجوم التي يعانيها أن الباشا يحصل له نكبة بعد مدة قريبة ويحصل ما يحصل من الفتن فيريد الخروج من مصر قبل وقوع ذلك، ونحو ذلك، فلما رجع الباشا من سفرته توسل المترجم بالكتخدا في أن يأخذ له إذناً من الباشا بالسفر وهو لا يعلم سريرته ففاوض الباشا في ذلك وألقى إليه ما ألقاه حتى أوغر صدره منه، ثم رد عليه بقوله إني استأذنت الباشا فلم يسهل به مفارقتك وقال أن كان عن ضيق في المعيشة فأطلق له في كل شهر كيسين عنها أربعون ألف نصف فضة، فلما قال له ذلك قال: إنا لا يكفيني هذا المقدار فإن كان فيطلق لي خمسة أكياس فقال لم يرض بأزيد مما ذكرته لك وكل ذلك مخادعة من الكتخدا ليحقق ما حشده في صدر مخدومه وما زال يتردد في طلب الإذن حتى أذن له وأضمر له القتل بعد خروجه من مصر فعند ذلك باع داره وما استجده حولها والبستان خارج قناطر السباع وما زاد عن حاجته من الأشياء والأمتعة واشترى عبيداً وجواري وقضى لوازمه وسافر إلى رشيد، فعندما مضى من نزوله يومان أو ثلاثة كتبوا إلى خليل بك حاكم الإسكندرية مرسوماً بقتله فبلغه خبر ذلك وهو بثغر رشيد، فلم يصدقه وقال أي ذنب استوجب به القتل ولو أراد قتلي ما الذي يمنعه منه وأنا عنده بمصر وأن سافرت بإذنه وودعته وقبلت يديه وأخذت خاطره وهو مبشوش معي كعادته، فلما حصل بالإسكندرية واستقر بالسفينة ومضى أيام وهم ينتظرون اعتدال الريح والإذن من الحاكم بالإقلاع، ووصل المرسوم إلى خليل بك فأرسل إليه في وقت يدعوه ليتغدى معه في رأس التين ونظر إلى خليل بك وهو واقف في انتظاره على بعد منه فوق علوة فأجاب وخرج من السفينة فوصل إليه جماعة من العسكر وأحاطوا به فتحقق عند ذلك ما كان بلغه وهو برشيد ونظر إلى خليل بك فلم يره فقال أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي ركعتين وقام من حلاوة الروح وألقى بنفسه في البحر فضربوا عليه بالرصاص وأخرجوه وتمموا قتله وأخرجوا صناديقه وأخذوا ما فيها من الكتب لأن الباشا أرسل بطلبها وأخذ ما معه من المال والدراهم خليل بك فأعطى لولده جانباً وأذن له بالسفر مع عياله وانقضى أمره، ووصلت الكتب إلى سراية الباشا وأودعت عند ولي خوجا وتبدد الكثير منها وفرق منها عدة على غير أهلها وكانت قتلته في أواخر شهر صفر من السنة والله أعلم. تلي ما الذي يمنعه منه وأنا عنده بمصر وأن سافرت بإذنه وودعته وقبلت يديه وأخذت خاطره وهو مبشوش معي كعادته، فلما حصل بالإسكندرية واستقر بالسفينة ومضى أيام وهم ينتظرون اعتدال الريح والإذن من الحاكم بالإقلاع، ووصل المرسوم إلى خليل بك فأرسل إليه في وقت يدعوه ليتغدى معه في رأس التين ونظر إلى خليل بك وهو واقف في انتظاره على بعد منه فوق علوة فأجاب وخرج من السفينة فوصل إليه جماعة من العسكر وأحاطوا به فتحقق عند ذلك ما كان بلغه وهو برشيد ونظر إلى خليل بك فلم يره فقال أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي ركعتين وقام من حلاوة الروح وألقى بنفسه في البحر فضربوا عليه بالرصاص وأخرجوه وتمموا قتله وأخرجوا صناديقه وأخذوا ما فيها من الكتب لأن الباشا أرسل بطلبها وأخذ ما معه من المال والدراهم خليل بك فأعطى لولده جانباً وأذن له بالسفر مع عياله وانقضى أمره، ووصلت الكتب إلى سراية الباشا وأودعت عند ولي خوجا وتبدد الكثير منها وفرق منها عدة على غير أهلها وكانت قتلته في أواخر شهر صفر من السنة والله أعلم.